تحدى الحرب والمعاناة ليصنع المجد، محمود رياض صفيف، شابٌ سوري في الحادي والعشرون من العمر، هُجِّرَ من سوريا ليلتحق بوالده في هولندا منذ أربعة سنوات، وهو ابن عائلةٍ منتمية للثورة السورية، عانت ما عاناه الشعب السوري من قمعٍ واستهدافٍ متواصل.
تنفرد فرات بوست بحوار خاص مع مدير أعمال الصفيف، والده رياض صفيف والذي خرج عن صمته ليروي لنا قصة نجاح ابنه محمود، ولماذا لم يمثّل منتخب سوريا الحر في المحافل الرياضية الدولية.
استهل السيد رياض المقابلة بالحديث عن بداية احتراف ابنه محمود قائلاً: “محمود شابٌ مهذبٌ وهادئ في مقتبل العمر، أردته أن يلتحق بي ليتابع حياته بشكلٍ طبيعي بعيداً عن قسوة الحرب في بلادنا، وكذلك سنحت له الفرقة بمتابعة دراسته هنا في هولندا، لكن خلف هدوئه هذا “بركانٌ” هامد بسبب ما قاساه في سوريا، لم أرد أن يثور هذا البركان فيولد “العنف” فقررنا أن يوظف طاقته في الرياضة، وحينها قرر أن يلتحق بأحد نوادي رياضة الـ “كيك بوكسنغ” وهي فرعٌ من رياضة الملاكمة، وهنا بدأت القصة”.
لماذا هذا النوع بالذات من الرياضة خصوصاً وأن الكثير من الناس يعتبرها رياضةً عنيفة يتهم من يحترفها “بالقسوة” هل فكرت في الأمر قبل اتخاذك القرار بتشجيعه؟
“لم أتردد لحظة عندما وافقت على احترافه هذه الرياضة تحديداً، فأي إنسانٍ طبيعي لديه مشاعر وأحاسيس قد تتحول في لحظة معينة إلى غضبٍ عارم، وأنا أجزم أن كل شخصٍ منا يجتاحه الغضب في مواقفٍ معينة، فلماذا لا نوظف هذه الحالة في مكانها الصحيح والقانوني، كما أرفض اتهام محترفي هذه الرياضة بالقسوة وانعدام المشاعر، فمن منا لا يعرف محمد علي كلاي المشهور برقته وطيبته وأعماله الخيرية، كان يتعامل مع الأطفال والضعفاء بمنتهى الرِقّة”
ماذا حدث مع محمود لاحقاً، كيف تطورت مهاراته حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم؟
“بدأ محمود بتلقي التدريبات على أيدي مدربين هولنديين في أحد النوادي المحلية، وعندما وجدو أنه يمتلك الموهبة اللازمة، دفعوه لخوض أولى مبارياته في دوري الهواة المحلي، وفي أولى المباريات أظهر محمود صلابة لا مثيل لها، لم تكن لكمات الخصم تؤثر به، بل على العكس كان يظهر جلداً وصبراً مذهلاً، وهنا قرر مدربيه الزج به في نزالاتٍ بمستويات اللعبة الأعلى (سي كلاس – بي كلاس ثم آ كلاس وهو دوري الدرجة الأولى) وكان هذا التدرج السريع بمثابة المعجزة بحسب وصف مدربيه، فخلال عامين فقط أنجز محمود ما عجز عنه معظم الملاكمين الهولنديين أو استغرقوا وقتاً أطول للوصول إليه”.
وتابع السيد صفيف حديثه موضحاً تفاصيل إضافية عن رياضة الكيك بوكسنغ وطبيعة مشجعيها في هولندا: “بعد مرحلتي الهواة والدوري المحلي ومستوياته، ينتقل الملاكم لدوري المحترفين، وهنا يطلب منه تمثيل وطنه، خاصةً وأنه خلال هذه المرحلة قد ينتقل للمحافل الرياضية الدولية في مباريات ضمن الأولمبياد أو البطولات العالمية، وتحظى هذه الرياضة هنا في هولندا بتشجيعٍ واسع، إذ أنها تعتبر في الترتيب الرياضة الثالثة إن لم تكن الثانية بعد كرة القدم، كما أن المحترف يخوض مباريات قد توصله لبطولة العالم”.
أتيتَ على ذكر التمثيل الدولي على مستوى المنتخبات الوطنية، وقد يقف القارئ عند هذه النقطة متسائلاً أي منتخب بالتحديد؟! خصوصاً وأن سوريا في المحافل الرياضية الدولية ممثلة بمنتخبين، أحدهم تابعٌ لنظام الأسد والآخر لمعارضيه من الرياضيين.
“بالفعل تلقى محمود عرضاً من نظام الأسد لتمثيل منتخبه، وذلك مباشرةً بعد انتقاله لدوري المحترفين، لكن كما يعرف الجميع (الرياضة أخلاق) لذا رفض هذا العرض رغم إصرارهم وتقديمهم مغرياتٍ ودعماً غير محدود، كل ما كانوا يريدونه هو رفع علم نظام البراميل، فهل من المعقول أن ترفع الضحية راية الجلاد؟! بالطبع استمر ابني برفض العرض، وهنا خاض نزالاً أعنف وأصعب من تلك التي يخوضها في الحلبة”.
“في هذه المرحلة كانت تكاليف التدريب والرعاية الصحية والسفر والمعدات مغطاة من قبل النادي الهولندي الذي اكتشف موهبة محمود، لكن عندما انتقل للمستويات الأولى في اللعبة، طلب مدربوه أن يمثل المنتخب الهولندي مقابل الاستمرار في تغطية نفقات التدريب، أو أن يحصل على تمثيلٍ وطني وتغطية مالية من أحد الاتحادين السوريين المعارض والموالي، أو أي دولةٍ أخرى يرغب بتمثيلها وطنياً، وأمهلوه ستة أشهر يستطيعون خلالها تغطيته مادياً”
بناءً على ردك السابق اتضح أنكم قررتم الاتجاه للمعارضة السورية واتحادها الرياضي، لكننا لم نرى محمود يحمل علم الثورة في مبارياته الرسمية حتى الآن، فما هو السبب؟!
“تواصلت مع القسم المختص في الحكومة المؤقتة التابعة للمعارضة السورية مع أحد المسؤولين في عنتاب – تركيا، وعند طلبنا منه منح التمثيل الرسمي للمنتخب الحر لسوريا، تم تأجيل البت في الأمر حتى تاريخ لاحق، وبعد تواصلٍ مستمر لمدة أسابيع، تلقيت رداً صادماً، قيل لي أن الحكومة المؤقتة لا تمانع لكنها لن تتكفل بكافة
المصاريف اللازمة بل ستمنح مبلغ لا يغطي 10% من احتياجات محمود وتكاليف السفر لحضور البطولات، هذا إذا لم نحتسب قيمة العلاج البدني والفيزيائي وتكاليف الإقامة والمعدات، وبعد استجداء طويل دام لأيام لم نصل إلى نتيجة، هذا الاستجداء لم يكن من أجلهم، بل من أجل شعبنا المكلوم الجريح الذي سيفرح بالتأكيد عندما يرى علم ثورته مرفوعاً في المحافل الرياضية الدولية”.
وأضاف السيد صفيف: “لم يكن يهمنا المال لكنه ضروري لاستمرار محمود في احترافه، وبالتأكيد الجميع يعرف ما هي تكاليف السفر بين القارات والإقامة والطبابة والمعدات وغيرها من أجورٍ للفريق الفني المرافق، لا نستطيع تحمل هذه التكاليف مطلقاً، وفي نفس الوقت كان ابني يعيش حرباً نفسيةً بين القبول بالعرض الهولندي واستمراره في طلب التمثيل من المعارضة، وعندما وجدنا أنهم أناس لا يبالون بأهدافنا ومبادئنا ويتعاملون مع الأمر بفوقيةٍ مزرية، في الوقت الذي ينفقون فيه مئات آلاف الدولارات على مؤتمراتهم واجتماعاتهم، لم يكن أمامنا إلا القبول بعرض هولندا أو انتهاء مسيرة محمود الرياضية، انتهائها وذهاب جهوده التي بذلها طوال العامين الماضيين في مهب الريح”.
وأخيراً وجه السيد رياض صفيف رسالةً إلى محبي محمود من جمهور الثورة السورية قائلاً: “لكم تمنى محمود أن يرفع علم الثورة السورية مباهياً به، لا أستطيع وصف حزنه بعد إتمام إجراءات تمثيل هولندا وهو الذي كان يحمل علم الثورة والذي صار اليوم ممنوعاً بموجب القوانين، هذا هو السبب لمن يسأل، لأن من يدعون تمثيل الثورة تخلوا عنا، ولأنه لا يستطيع رفع أغلى وأحب علمٍ على قلبه، لكنه رفع سابقاً صور أطفالنا شهداء الثورة وسيستمر برفعها ملتزماً بواجبه الأخلاقي والإنساني، محمود بحاجة لدعمكم، فعلم الثورة محفورٌ في قلبه، كونوا معه واقرأوا نظراته وستعرفون”.
حصل البطل الرياضي محمود صفيف على 21 كأساً خلال مبارياته التي خاضها في عامين فقط، ويحَضّر الآن لبطولة المحترفين العالمية التي سيخوضها خلال الشهر المقبل، ويضع نصب عينيه اللقب العالمي، وهو ما أكد مدربون أنه ليس بعيداً عنه نظراً للياقته العالية وصِغَرِ سنه وحماسته المصقولة بالخبرة والدعم اللازم، وإذا ما حقق اللقب العالمي سيترك حسراتٍ لا حدود لها في قلوب كل السوريين الأحرار… لكن هكذا شاءت الأقدار.