رأي: أحمد طلب الناصر
منذ إطلاق مسار (آستانا) وبوتين يبحث عن مخرج مخالف لمسار (جنيف) القائم على قاعدة “الانتقال السياسي” يضمن من خلاله بقاء رأس النظام على سدة الحكم في سوريا، ليقينه التام بأن أي حلّ يحمل في طيّاته تغييراً في جوهر النظام ورأسه، سيشكّل نهايةً لجميع المكاسب التي انتزعها الروس من الأسد ثمناً لحمايته ولقتل السوريين ووأد الثورة، وبالتالي إغلاق قاعدة الغزو في (حميميم) وإنهاء الوجود الروسي، عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً.
ومن هذا المنطلق، دأب الروس على حلحلة العديد من الملفّات الحسّاسة بغية إنهائها وإغلاقها بأسرع وقت ممكن، للحيلولة دون مناقشة مصير الأسد وتحديد صلاحياته، كرئيس للنظام، في جميع الحلول الدولية المقترحة مستقبلاً.
ومن بين أهم الملفات التي يجهد الروس لإغلاقها مؤخراً (بعد إنهاء ملفّ خديعة التسويات والمصالحات)، هي: ملف الدستور، وملف المعتقلين والمختفين قسرياً، وملف المهجّرين.
بالنسبة للملفّ الأول، الدستور، فما زال النظام والروس رافضين لتغيير أي مادة أو كلمة من شأنها تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية وترجيح كفّة مطالب المعارضة والثوار، لا سيما ما يتعلّق بالمؤسستين العسكرية والأمنية، لتأثيرهما المباشر على التواجد الروسي كما ذكرنا، على الرغم من موافقتهم المبدئية على أسماء لائحتي اللجنة الدستورية.
أما ملف المعتقلين والمختفين، فيحاول الروس بشتّى الوسائل تحييد مسؤولية الأسد المباشرة عن ضحايا التعذيب الذين لا تزال أعدادهم تتجاوز المئة ألف، حسب إحصائيات منظمة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة و(أمنستي)، رغم صدور قوائم “المسلخ البشري في صيدنايا” وعددهم يقارب 13 ألف قتيل، إضافة إلى قائمة ضحايا “تحت التعذيب” التي وزّعها النظام مؤخراً على دوائر السجّل المدني داخل المحافظات والتي بلغ عدد أسمائها 8 آلاف قتيل؛ وقبل تلك القائمتين كانت صور (قيصر) التي شكّلت التهديد الرئيس والمباشر لرأس النظام.
أخيراً، وبدون أدنى حرج، يصرّح النظام، بكامل قواه الوحشية المعهودة، بأن “كل مفقود هو ميت”؛ ليوفّر على نفسه عناء اختلاق قوائم وتسريبات جديدة، وكأنه يقول للشعب وللمجتمع الدولي: “أعلى ما بخيلكم اركبوه”!
نأتي الآن للحديث عن آخر الملفات التي ينشط الروس لتحقيق نتائج ملموسة على صعيدها، وهو ملف المهجّرين وعودتهم إلى مناطق النظام.
لم يترك الروس باباً من أبواب المجتمع الدولي وحكومات دول الجوار، إلا وطرقوه، بغية الضغط على المهجّرين السوريين، لإعادتهم إلى مناطقهم التي استعادها النظام بمساندة الطيران الروسي والميليشيات الإيرانية وحزب الله.
وعلى الرغم من الضمانات الروسية والتطمينات التي أطلقوها لإقناع المهجّرين بالعودة؛ وبرغم التضييق الذي مارسته بعض دول الجوار على السوريين المقيمين داخل مدنها ومخيماتها، لا سيما بعد استعادة الغوطة ودرعا، إلا أن غالبية المهجّرين امتنعوا عن العودة خوفاً من بطش النظام وانتقامه.
تزامن ذلك النشاط الروسي مع إصدار رئيس النظام لمراسيم (عفو) استهدفت المنشقين من العسكريين والمتخلّفين عن الجيش في داخل وخارج البلاد بشرط تسليم أنفسهم دون إجبارهم على الالتحاق بخدمة جيش النظام.
يعتقد الروس، حلفاء النظام وحماته وغطاؤه (الفيتوي) في مجلس الأمن، أن الأسد يشاطرهم الرغبة في إعادة المهجّرين وإغلاق هذا الملف الشائك، إلا أن الوقائع تقول عكس ذلك تماماً؛ ولنعد بالزمن قليلاً إلى الوراء، تحديداً إلى سبتمبر/ أيلول 2017، حين ظهر العميد “عصام زهر الدين” في تسجيل مصوّر بإحدى مناطق دير الزور، مهدداً بمعاقبة السوريين الذين يفكرون بالعودة حتى وإن عفا عنهم النظام.
وقال زهر الدين: “من هرب من سوريا إلى أي بلد آخر، أرجوك لا تعود، لأنه إذا الدولة سامحتك، نحن عهدًا، لن ننسى، ولن نسامح، نصيحة من هالذقن، لا أحد يرجع منكم”.
ومهما بلغت قوة المركز الذي يتبوأه ذلك العميد، إلا أنه لا يمكّنه إطلاق ذلك التصريح الخطير بدون توجيه من القيادة العليا، التي تقصّدت تصفيته بعد أيام معدودة من التصريح، لإيهامنا بأنه يغرّد خارج سربها ورغباتها في عودة المهجّرين، على الرغم من إشاعة خبر مقتله جراء انفجار لغم أرضي زرعته (العصابات الإرهابية)!
بعد مرور أقل من عام على “مقطع _تصريح” زهر الدين، وتحديداً في نهاية شهر يوليو/ تموز 2018، جاء تصريح مدير المخابرات الجوية اللواء “جميل حسن”، الذي أعلنه خلال اجتماع لكبار ضباط أمن وجيش النظام، بقوله إن أكثر من 3 ملايين ملف لمطلوبين سوريين، داخليًا وخارجيًا جاهزة، مضيفًا أن “العدد الهائل للمطلوبين لن يشكل صعوبة على إتمام الخطة؛ فسوريا بـ 10 ملايين صادق مطيع للقيادة أفضل من سوريا بـ 30 مليون مخرب”.
كما وصف التعامل مع المهجّرين حال عودتهم، كما التعامل مع الأغنام؛ حيث سيتم تصفية “التالف” منها، واستخدام الصالح، أما المطلوبون منهم سيتم التعامل معهم مباشرة بتهمة الإرهاب”، مضيفًا: “سوريا بعد 8 سنوات لن تقبل وجود خلايا سرطانية، وسيتم استئصالها بالكامل”.
بعد ذلك التصريح المباشر، تزامنت حادثتان كانتا لهما التأثير المباشر على ما يشاع اليوم حول “الحسن”، الأولى: صدور مذكرة التوقيف الدولية بحقّه وضابطين آخرين، بناءً على طلب من القضاء الفرنسي، جراء الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبوها بحق الثوار والمعتقلين.
الثانية: الاجتماع الذي عقده “الحسن” مع بعض الوجهاء في بلدة الكرك الشرقي بريف درعا، في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، والذي قال فيه: “أنا لم أنسَ ما قامت بفعله “بصر الحرير” و”ناحتة”، ففي يوم واحد قامت بصر الحرير بقتل مئتي عنصر لي، وأنا عربي والعربي لا ينسى الثأر”.
وجاء وعيد “الحسن” بعد أن قام بإسكات أحد الوجهاء، بعد أن عرف أنّ المتكلم من بلدة ناحتة، حيث وجّه كلامه للمتكلم: “لو كنت أعرف أنّك من ناحتة لما سمحت لك بالكلام، أنا لم أنس ما قمتم بفعله”.
وقد كان في الاجتماع عدد من الوجهاء والمدنيين الراغبين بمعرفة مصير أبنائهم، الذين تم اعتقالهم مؤخّراً ليتفاجؤوا بتهديد جديد لهم ولقراهم!
وتنتشر اليوم أنباء متفرقة عن تعرّض جميل الحسن لجلطة دماغية أحالته إلى المشفى، وأغلب الظن أن يكون نظام الأسد بصدد إلحاقه بمن سبقه.
واليوم، يقوم النظام بتنفيذ ما صرّح به كلّ من زهر الدين والحسن حرفياً، إذ راح يعتقل جميع المطلوبين، ومن بينهم قادة المصالحات والذين وقعوا معه أوراق التسوية، بالإضافة إلى تنفيذ الإعدام على العديد منهم.
وليس أوضح من الصور الأخيرة المسربة، المتضمنة تقييد العشرات من الشبّان ممّن ابتلعوا طُعم مرسوم العفو الأخير، وسوقهم بالسلاسل إلى القطع العسكرية.
أما ما يتعلّق بالمهجّرين داخل دول الجوار، لا سيما في لبنان، فقد جاء تصريح الوزير اللبناني لشؤون النازحين “معين المرعبي” واضحاً لا لبس فيه، إذ قال بأن حكومة النظام السوري رفضت عودة عائلات “سنية” إلى منازلها، لأنها “تعمل على تغيير ديموغرافي” في سوريا. وإن موافقة النظام السوري على لوائح اللاجئين التي يقدمها لبنان تجري بشكل “استنسابي وممنهج”، لأنه “يعمل على تغيير ديموغرافي، حيث دمر بيوتهم وأقتلع أشجارهم المثمرة”.
وتابع المرعبي: “كما جلب عوائل من مناطق أخرى (ويقصد من ميليشيا حزب الله وإيران) وأسكنهم مكان الذين هجرهم، وخاصة في القلمون الغربي ومدينة القصير وريفها غربي حمص وسط سوريا”.
إذن، فرسائل النظام إلى المهجّرين والنازحين السوريين واضحة جداً، وفحواها يقول للجميع: نحن لا نريد عودتكم، ومن يودّ العودة فسيتعرّض للملاحقة والمساءلة، وغالباً للموت!
فهل يجهل الروس هذه الحقيقة، أم يدركونها جيداً لكنهم يخادعون المجتمع الدولي للحفاظ على الأسد؟