ما أن تم طرد “تنظيم الدولة” من أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها في دير الزور والرقة، حتى تكشف حجم الدمار الكبير والأوضاع الإنسانية الهشة التي تتطلب جهوداً كبيرة، في سبيل خدمة ما تبقى من سكان تلك المحافظتين، أو من بدأ العودة إليها، سواء ما تعلق بالمناطق الخاضعة لـ”قسد”، أو لسيطرة نظام بشار الأسد وميليشياته المدعومة من إيران.
“التدخل المبكر” المعروفة اختصاراً بـ”ertt”، هي إحدى المنظمات الإنسانية التي لاقت حظوة كبيرة في مناطق سيطرة “قسد”، لتتولى عدداً كبيراً من المشاريع الإنسانية في بلدات وقرى ومدن المحافظتين، ويشمل ذلك مخيمات النازحين المتوزعة في مناطق عدة داخلها، لكن هذه المنظمة مع مرور الأيام، أصبحت أنموذجاً للفساد الذي نخر في عمل الهيئات والمنظمات الإنسانية داخل مناطق “قسد”، أسوة بما عليه حال الفساد الذي طغى على عمل المنظمات الإنسانية في مناطق النظام.
“فرات بوست” تمكنت من الحصول على معلومات ووثائق تبين حجم الفساد الكبير الذي نخر في جسد “التدخل المبكر”، والذي يبدو أن وتيرته (الفساد) تزداد، جراء عدم وجود المحاسبة حتى الآن.
بعد الرقة، باشرت منظمة “العمل المبكر” المدعومة من التحالف الدولي عملها في دير الزور في الأول من شهر يناير/ كانون الثاني 2018، واتخذت من ناحية الكسرة في ريف دير الزور الغربي (جزيرة) مركزاً لها.
مواطنو ريف دير الزور، لم يعلموا بوجود منظمة دولية لخدمة مدنيي المنطقة، إلا بعد مرور فترة من الزمن، ليتبين بأن العاملين لديها من إداريين وعمال يخفون عمل هذه المنظمة لغايات شخصية، بهدف التكتم على الأعمال التي يقومون بها، ولعدم فضح تجاوزاتهم، وبوادر الفساد التي بدأت تنخر بجسدها مع الأيام الأولى لوجودها داخل مناطق سيطرة “قسد” في دير الزور.
ووفق المعلومات التي زودتنا بها مصادرنا، فإن من أوجه الفساد التي ظهرت على “التدخل السريع” في دير الزور، طريقة توظيف العاملين في المنظمة، مع عدم طرح أي إعلان لإجراء مسابقة لهذا الغرض، ولم يذكر أحد بأن المنظمة أعلنت عن مسابقة لانتقاء موظفين مؤهلين لهذه الغاية الإنسانية، وبالتالي أخفوا عن أبناء المنطقة هذا الخبر، ولم تكشف الشروط التي تستوجب التعيين، علماً بأنه يوجد في المنطقة شهادات وخبرات وكفاءات عالية تستحق أن تكون في هذا المكان.
ووفق المعلومات التي حصلنا عليها في هذا المجال، فإن التعيين انحصر بين عائلتين (المحيمد، البومحمد) تنحدران من قرية بقرص الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد (تبعد 95 عن مركز عمل المنظمة)، وبالتالي كانت “الطريقة العائلية” هي الأسلوب المتبع في تعيين كوادرها، ومن ثم عملها وأجنداتها (عائلة المحيمد لديها أكثر من 8 موظفين)، وإدارة مشاريعها.
استئجار “عائلي” للآليات:
“التدخل السريع” اتخذت “العائلية” منهجهاً لعملها، ومن ذلك حصر كل عمل الآليات المستأجرة أو المتعاقدة ضمن أقارب ومعارف الموظفين، ويتم اقتسام الحصص في هذا المجال بشكل سري.
ومن الأمثلة على الفساد المتعلق بالآليات، طرح مسابقة لانتقاء آليات وسائقين، على أن تحتوي الآليات على خزانات بحجم كبير لتوصيل المياه للمواطنين. وتبين بعد ذلك، أن المسابقة كانت وهمية، وأجريت سابقاً بشكل سري، وتم اختيار الأشخاص المتعاقدين.
وبحسب شهادة أحد المتقدمين لهذه المسابقة لـ”فرات بوست”، فإنه بعد تقديم أوراقه في المسابقة المعلنة، لم يتم الاتصال به، وعقب مراجعته لمركز المنظمة، قيل له بأن المسابقة انتهت واختير الأشخاص، دون تبيان أسباب دعوة المتقدمين للمسابقة الذين تجاوز عددهم الـ500 متسابق.
آليات نقل المياه:
شهادات عدة لـ”فرات بوست”، يشير أصحابها إلى أن غالبية الصهاريج المتعاقدة مع المنظمة والتي تنقل المياه للمدنيين كانت تعمل في نقل النفط ومشتقاته، وهي بذلك لا تصلح لنقل المياه بسبب تلوثها ومخاطر نقلها وتسببها بالعديد من الأمراض والأوبئة، ناهيك عن قيام بعض هذه الآليات بنقل المياه من السواقي والآبار الباطنية الملوثة، ورغم ذلك لم تتم محاسبة الموظفين المشرفين على التعاقد مع هذه الآليات.
المياه التي نقلتها الآليات المتعاقدة مع “التدخل المبكر”، أسفرت عن تفشي أمراض باطنية، وانتشار الإسهالات المدمية بين الأطفال وكبار السن، ما أدى إلى حصول وفيات، هذا عدا عن انتشار الأمراض الجلدية والحمى التيفية والتهاب الكلى والاقياءات.
وتركز انتشار هذه الحالات، في ريف دير الزور الغربي (جزيرة)، وخاصة في سفيرة تحتاني، زغير جزيرة، الشاطئ، الجزرة، حوايج بومصعة. وبسبب ذلك وردت حالات مرضة إلى مشفى الكسرة ومستوصف محيميدة، وتوفي بعض أصحابها، لكن الكادر امتنع عن إعطاء أسماء المصابين أو المتوفيين، ليتبين بعد ذلك، وجود صلة قرابة بين بعض موظفي المشفى وعاملي منظمة “التدخل السريع”.
فريق شبكة “فرات بوست” الذي بذل المزيد من الجهود لتقصي الحقيقة، علم أن اثنين من المتوفين هم من أبناء قرية زغير جزيرة، إضافة إلى وجود حالة وفاة لأحد نازحي قرية محيميدة (ابن حسين الأبدع)، الذي أصيب بإسهال مدمي جراء شرب المياه المنقولة عبر الصهاريج النفطية.
خيار وفقوس:
بعد جولة ميدانية ولقاءات مع نازحين من مدينة الميادين والقرى المجاورة لها شرق دير الزور، تبين بأن المنظمة تتقاضى 1500 ليرة (3.5 دولار أمريكي) قيمة كل خزان مياه (سعة 5 براميل).
وما يجدر ذكره في هذا المجال، شكوى “أم خالد”، وهى نازحة من مدينة دير الزور لمخفر محيميدة من عدم إعطاءها المياه المقدمة رغم تسجيل اسمها أكثر من مرة، وأيضاً ما قاله محمد غدير نازح من مدينة دير الزور، وهو الآن مقيم بحي الكلاسة بقرية الحصان، حول عدم قيام المنظمة بتوصيل المياه رغم تسجيل الأسماء، مشيراً إلى أن السبب هو طغيان علاقات القرابة والمعرفة الشخصية في أولويات التوزيع.
أحد نازحي الشولة (قرية على طريق عام دير الزور – تدمر تبعد عن مركز مدينة دير الزور 300 كم) وهو الآن مقيم بقرية سفيرة تحتاني بمخيم بسيط غير مخدم، قال لـ”فرات بوست”، إن أفراد عائلته تم إسعافهم إلى كافة الصيدليات بقرية سفيرة تحتاني، دون الحصول على العلاج المطلوب، وبعد عرضهم على المخابر المتوفرة في المنطقة، تبين أن السبب الرئيسي هو شربهم واستعمالهم من المياه المقدمة من الصهاريج المذكورة.
والتساؤل الذي يطرح في هذا المجال،: ما معنى طرح مشروع نقل المياه الصالحة للاستعمال بواسطة صهاريج غالبيتها كانت تعمل بالنفط ومشتقاته، حيث تستأجر يومياً وبكلفة باهظة جداً، رغم وجود محطات ضخ مياه في كل قرى خط الكسرة وتحتاج لإصلاحات بسيطة فقط..؟!
فريق التواصل المجتمعي:
هو فريق يعمل ضمن “التدخل المبكر”، ويعرف من قبل الداعمين للمنظمة بأنه فريق مكون من مجموعة شخصيات عشائرية وفاعلة من أبناء المنطقة، تمثل سكانها بمسؤولية، وعلى عاتقهم يقع الإشراف والاختلاط مع الناس، ودراسة أوضاعهم الاجتماعية وحاجتهم للأشياء ولوازمهم، وأيضا من مهامهم الجلوس مع الأهالي في القرى للاستماع لمطالبهم وشكاويهم وحاجاتهم ومن ثم يقوم هذا الفريق برفع تقارير للمنظمة الداعمة، وعلى أساس هذه التقارير تقوم المنظمة الداعمة برفع توصيات لفريق “التدخل المبكر” من أجل تنفيذ المشاريع المقترحة من قبل أهالي المنطقة.
ولكن بحسب ما ذكره العديد من سكان ريف المحافظة الغربي، فإنهم لا يعلمون آلية انتقاء شخصيات هذا الفريق، مع تأكيدهم على عدم وجود أنشطة لهم في كافة قرى خط الكسرة، باعتبار هذه المنظمة تعمل في هذا الخط.
وبعد المتابعة والتدقيق، تبين أن هذا الفريق وأعضائه يعمدون إلى نشر أنشطة وهمية على صفحات التواصل الاجتماعي، وتظهر الصور أن اللقاءات ليست أكثر من اجتماعات مع موظفي المنظمة أنفسهم، وليست مع سكان المنطقة كما يتم ترويجه.
الجانب الأسود في هذا الفريق أيضاً، هي خلفيات وتاريخ أعضاءه، ومنهم:
11- رمضان المحيمد، كان يعمل محاسباً لدى “تنظيم الدولة”، إضافة إلى عمله كمسؤول ضمن ديوان التعليم التابع للتنظيم قبل طرده من المنطقة، بالإضافة لعمله كخطيب جامع تابع لديوان الدعوة والإرشاد بتكليف من التنظيم كذلك.
2- العقيد أبو أسامة المحيمد، وعين في وقت سابق من قبل “تنظيم الدولة” مديراً لمشفى الكسرة.
3- العقيد أحمد الخلف “أبو رامي”، وهو أحد العاملين في ديوان العلاقات العامة التابع لـ”تنظيم الدولة”.
4- عبد الفتاح الملقب “أبو النور”، وهو قريب لموظفين في المنظمة.
مدنيون من ريف دير الزور الغربي، وتعبيراً عن موقفهم من منظمة “التدخل السريع” والفساد الذي التصق بها، أصبحوا يفضلون عليها أسماء مثل “اللا تدخل”، أو “التدخل المتأخر”، معلنين مواقف رافضة لأداء المنظمة المتواضع، وعدم وجود أي محاسبة ومتابعة من قبل الداعم التحالف الدولي الداعم المادي لها، لتطرح عشرات الاستفهام حول أسباب عدم التحرك للحد مما يجري من فساد للمنظمات الإغاثية والإنسانية داخل مناطق “قسد”، ومن ثم أين ستصل الأمور إذا ما بقيت الحال على هذا المنوال، أو تطورت إلى خطوات كارثية أكبر؟.
يذكر في هذا السياق بأن إحدى المواقع الإعلامية الموالية لـ”قسد” قد نشرت في وقت سابق، تقريراً مصوراً من بلدة الكسرة في ريف دير الزور الغربي، وأظهر فيه آليات تقوم بتسوية أرض كبيرة المساحة، زاعماً أنها لمشروع حديقة بدأ تنفيذه، لتلبية حاجات سكان المنطقة.
“فرات بوست”، وبعد تقصي حقيقة هذا المشروع الذي عرض موقع “جرف نيوز” تقريراً حوله في منتصف أبريل/ نيسان الماضي، حصلت على معلومات مدعومة بصور وفيديوهات، تؤكد أنه ليس أكثر من مشروع وهمي، وأن الهدف منه الترويج لـ”قسد”، وتقف خلفه إحدى صفقات الفساد، وسط معلومات يجري التأكد منها، وتفيد بأن منظمة دولية ربما تقف وراء هذا المشروع.
وتبين المعلومات التي زودتنا بها مصادرنا، أن الوضع الحالي للأرض التي عرض منذ أكثر من شهر صور عمليات تسوية أرضها وإزالة مخلفاتها، تحولت إلى كراج للصهاريج والآليات التي تنقل النفط إلى مناطق النظام في السلمية بريف حماة، بعد تعبأتها من حقول ريف دير الزور في الجانب الخاضع منه لـ”قسد”.
مشروع الحديقة الوهمي ذكرت تقارير إعلامية، أن “مجلس دير الزور المدني” التابع لـ”قسد” هو الجهة المنفذة للمشروع، دون إظهار الداعم المادي لها، ونعمل على التحقق من اسم المنظمة الدولية الداعمة لهذا المشروع الوهمي.
يذكر بأن المدن والقرى والبلدات الواقعة تحت سيطرة “قسد” في ريف دير الزور (جزيرة)، يعاني قاطنوها من أوضاع معيشية صعبة وخدمات شبه معدومة، كما تنتشر في تلك المناطق عشرات المخيمات التي تعاني من غياب الخدمات، رغم مرور شهور طويلة على إنشائها، تحت أعين “قسد” والمنظمات الدولية العاملة في مناطق سيطرتها.
“فرات بوست” تفتح الملف.. الفساد ينخر جسد المنظمات الإنسانية داخل مناطق سيطرة “قسد”.. “التدخل المبكر” أنموذجاً
438