خاص – فرات بوست
من شدة تكرار المآسي والخيبات، خسرنا عنصر المفاجأة، إذ أصبح كل شيء عادياً ومألوفاً، في ظل المجتمع الدولي البائس، وفي هذا الزمن القاسي.
أصبح كل شيء يدخل في النمط العادي، لا يُحَرَّكُ له ساكناً، حتى لو كان فاجعاً مثل إبادة ألاف الأشخاص أو تهجير مدينة بأكملها، أو حرقها على رؤوس أهلها.
هل من مخرج في هذا الزمن الصعب والقاسي جداً على حساب أرواح البؤساء والمساكين الذين لم تحتضنهم سوى عواصف الموت، في ظل دكتاتورية يزداد إجرامها، ولا تجد من يوقفها، وفي ظل الظلاميين الذين حولوا مدينة السحر والجمال إلى مدينة شديدة السواد والحزن؟.
منذ أكثر من ثلاثة شهور تتعرض مدينة دير الزور وأريافها لإبادة كاملة وشاملة وقصف عنيف وغير مسبوق بشتى أنواع الأسلحة والصواريخ.
لم يذكر تاريخ تلك الأرض ذات المساحات الغنية بالتراث الإنساني، سوى “شابور الأول”، الملك الساساني الذي قدم من إيران، ودمر وأحرق وشرد مدينة دورا اوروبوس، وجرى نهر الفرات دماً كما يحدث الآن في دير الزور.
تاريخ يعيد نفسه بشكل آخر، فهناك جيوش وحشود من القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام وميليشياتها من جهة، والقوات الكردية والعربية مع التحالف الدولي من جهة ثانية، في حرب ضروس ضد تنظيم داعش الذي أدى دوره التدميري كما يجب، ومع استمرار معارك طمس دير الزور بشكل شبه كامل بين جميع الأطراف، يبقى المدنيون الخاسر الوحيد.
منذ خروج المدينة عن سيطرة الأسد عام 2012، تم تدميرها بشكل شبه كامل، وهجر النظام ما يقارب من 350 ألفاً، توزع معظمهم على المدن القريبة والأرياف.
مع دخول داعش وسيطرتها على المدينة عام 2014، وبعد مقاومة ومواجهات عنيفة، بسط التنظيم سيطرته على كامل دير الزور، ليحولها إلى مدينة شديدة الظلمة والسواد بقوانينه الصارمة.
هجر داعش بدوره ما يقارب من 150 ألف مدني، وتناوبت سيوفه من جهة، وآلة الموت التابعة لنظام الأسد، وأسراب الطيران الحربي الروسي صباحا وطائرات التحالف الدولي مساء من جهة أخرى على حصد أرواح المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة.
بعد انحسار “دولة الخلافة” الكارتونية، بدأت قوات نظام الأسد والميليشيات الداعمة لها، وبمساعدة حلفائها الروس والإيرانيين، بشن أكبر حملة على مدينة دير الزور من الجهة الجنوبية، بينما هاجمت ميليشيا “قسد” بالتعاون مع التحالف الدولي هجمات من الجهة الشمالية على ريفي دير الزور الشرقي والغربي.
ومع استمرار المعارك ضد تنظيم داعش، ازدادت مأساة المدنيين، وارتكب الطيران الروسي أبشع المجازر بحقهم باستهدافه المعابر النهرية والتي يحاول المدنيون من خلالها العبور إلى ضفة الجزيرة باتجاه البادية الشمالية، رغم فرض التنظيم عدم المغادرة وإجبار المدنيين على البقاء لاستخدامهم كدروع بشرية.
ووصل مئات الآلاف من خلال الصحراء في رحلة شاقة، توجت بخروجهم من تحت الرماد، لكنهم تركوا جثث ملقاة على ضفاف الفرات، ودماء تجري في ذاك النهر ببعض ثيابهم وبقايا ذاكرتهم.
البادية الشمالية كانت الوجهة الوحيدة للنازحين خوفاً من بطش نظام الأسد وميليشياته، لتستقبلهم “مخيمات الموت” في صحراء قاحلة، حيث الحياة التي لا تشبه الحياة بشيء، ولا يوجد أدنى مقومات المعيشة من طعام وماء، ولا رعاية صحية، وسط انتشار الأمراض والأوبئة.
ومع ازدياد المعارك ضراوة، ازداد تدفق المدنيين الفارين من شدة القصف، ليعبر الكثير منهم إلى موت آخر، في مخيمات أطلق عليها الناشطون “مخيمات الموت”، والتي تفتقد أدنى مستويات الاهتمام والرعاية الصحية، وتتزايد معدلات الوفيات داخلها يوماً بعد يوم، كما انتشرت الأمراض بين الأطفال، ولا سيما اللشمانيا والجفاف وأمراض السل.
لا توجد إحصائيات رسمية لعدد الأطفال أو المصابين بالأمراض، وذلك بسبب الغياب التام والكامل للمنظمات الإنسانية والإغاثية والدولية، لذلك تقع المسؤولية الأخلاقية على عاتق من بنى هذه المخميات، وأجبر من تجرع كل أنواع الدمار والإرهاب على المكوث فيها.
دير الزور وأيام الشدة الكبرى
89