أحمد الرمضان _ لفرات بوست
رغم أنني ولدت خارج المنطقة الشرقية المشهورة بصبغتها العشائرية، ولم أعش فيها إلا بعد اندلاع الثورة عام 2011، لكني مع ذلك أحببت كل شيء عن العشائر، وكان لي شغف لمعرفة كل ما يتعلق بها: نمط حياتها، أسرارها، عاداتها وتقاليدها، محرماتها، مقدساتها، تاريخها، وصولاً إلى ما سيؤول إليه مستقبلها.
بسبب ذلك، كان الجلوس مع من هم أكبر مني سناً يشغل اهتمامي وتركيزي، وكثيراً ما جلست مع والدي أو والدتي للاستفسار عن كلمة لم افهمها بلهجتنا، بسبب بعدنا عن بلدنا الأم.
كنت اشعر بالكثير من السعادة عندما يزورنا أقارب من دير الزور، أحببت لباسهم، تصرفاتهم، كلامهم. لدرجة دفعتني إلى أن أحاول تقليدهم مرات عدة.
ولدت في حي الميدان الدمشقي العريق، أهلي لا يذهبون إلى دير الزور إلا في المناسبات أو الأعياد، وربما يمر العام والعامين بين الزيارة والأخرى.
مع بلوغي مرحلة الشباب، اعتدت الذهاب إلى دير الزور مرة كل ستة أشهر تقريباً، أتوجه خلالها إلى ريف المحافظة وقراها، ويدفعني إلى ذلك تعلقي بنمط الحياة البسيطة التي يعيشها أبناؤها. ولأجد في زياراتي هذه فرصة لممارسة بعض الطقوس العشائرية إضافة إلى مشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، ومناسباتهم الاجتماعية.
بعد مضي عام من انطلاق الثورة السورية، وتحديداً في منتصف عام 2012، أجبرت على ترك العاصمة بسبب ملاحقتي من قبل فروع النظام الأمنية، لمشاركتي في النشاط السلمي للثورة داخل أحياء دمشق ومحيطها، وعند قدومي إلى دير الزور، كانت فصائل الجيش الحر مسيطرة على معظم الريف الشرقي، عقب طرد قوات النظام منها.
في هذه المرحلة بدأ الاحتكاك مع الحياة العشائرية يتم بشكل أكبر، لتظهر أمامي نمط حياتهم المرتكز على دعامات الكرم والبسالة والشهامة وطيب الأخلاق، وحب الناس لبعضهم البعض. لكن ما بدا لي في ذلك الوقت، أن شيوخ العشائر كان يقسمون لقسمين:
القسم الأول: شيوخ موالون للنظام، ويعلنون ذلك بشكل مكشوف، ومنهم من لجأ إلى السلاح للتصدي لعناصر الجيش الحر، وقبل ذلك استخدم السلاح في قمع المظاهرات السلمية. ودفعت بعض المواقف والأحداث المرتبطة بإحدى الشخصيات العشائرية المعروفة، إلى أن أعيد النظر في بعض قناعاتي السابقة.
ولعل من أبرز تلك الحوادث، ما حصل في معركة الميادين في تشرين الثاني 2012، عندما لم يتبقى للثوار سوى بضعة أمتار، ليصلوا لقلعة الميادين، ويستكملوا طرد قوات النظام التي كانت تقصف منها الريف الشرقي بشكل يومي. ليأتي شيخ أحد القبائل، ويقول: “لن اسمح لأحد بطرد عناصر النظام، وإذا أردتم طردهم يجب عليكم قتلي في بادئ الأمر”.
هذا الموقف اختلطت فيه لدي مشاعر الغضب والدهشة، لكن سرعان ما عادت ثقتي بالعشائرية من جديد، عندما قام أحد الثوار من أبناء عشيرة الشيخ ذاته بتنحيته جانباً، وقال له بالحرف الواحد: “ما ظل دور شيوخ، ليذهب الشيخ ويلزم بيته حتى الموت”.
القسم الثاني: شخصيات عشائرية مؤيدة للنظام، وتنتظر الوقت المناسب لترى أين تميل الكفة، لتقف في صفها، ومن هؤلاء شيخ عشيرة في الريف الشرقي أيضاً، كان قد أعلن للجميع أنه يلتزم الحياد، وعندما سيطر الجيش الحر على 80 بالمئة من دير الزور، سلح أولاده وأقاربه وأصبح الثائر رقم واحد بحسب زعم الموالين له.
هذا بالنسبة لشيوخ الداخل في المحافظة، أما شيوخ الخارج، فهم أقسام عدة، فمنهم من تقلب ما بين الجيش الحر، ثم النصرة، وبعدها لداعش، ثم “قسد”، وأخيرا النظام.
ومنهم من بقي عند النظام، ومنهم من جلس في دول الخليج، ومنهم من جلس في تركيا يدير أمور العشيرة على هواه.
بالعودة إلى دير الزور، العشائر السورية بالعموم هم أطيب الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي، بل وهم مستعدون لتقديم دمهم إن صادقوك.
تنقلت في الريف الشرقي والغربي والبوكمال خلال سنتين قضيتها في دير الزور، لم أجد أطيب من أهلها، لكن وقعوا في مشكلة أن أغلب من يتكلم باسمهم، أو من يتصدرهم، شخصيات من أصحاب “التربية البعثية” كما يصفهم بعض سكان المنطقة، أو شخصيات أخرى متعصبة لأصلها ولعشيرتها، وهناك شخصيات ثالثة كل واحد منها يتبع لأجندة ما، يحاول خدمتها وتحقيق أهدافها على حساب أبناء جلدته.
قدمت داعش إلى دير الزور بعد مقاومة شرسة استمرت نحو 6 أشهر، ومع أول أيام سيطرتها، بدأت “البيعات” للتنظيم، وإعلان “الولاء للخليفة”، بل وصل الأمر لدى البعض، إلى مرحلة تقديم الهدايا والعطايا، على أمل نيل منصب جديد في القوة الجديدة المتحكمة في المنطقة.
نشرت العديد من الفيديوهات لـ”بيعات” شخصيات عشائرية بارزة لداعش، واحتفظ بقسم آخر لعرضها في الوقت المناسب.
بعد شهر من سيطرة التنظيم اضطررت إلى الخروج من دير الزور، وبدأت الحقائق تظهر تباعاً، وبدأت اسمع بشيوخ عشائر حرصوا على توزيع ولائهم ما بين النظام وداعش وبل وحتى لـ”قسد” في آن واحد، ومنها ما يظهره بشكل علني، ومنها ما ينتظر فرصة للظهور. وكل ذلك في سبيل الحفاظ على المصلحة الشخصية والعشائرية.
وصلت
إلى تركيا أواخر عام 2014، لأكمل من خلالها ممارسة العمل الإعلامي، وتعرفت داخلها على نوع جديد من الشيوخ المقيمين الذين لم يكن لهم نشاط عشائري مع الداخل السوري منذ سنوات، ومع ذلك تقمصوا دور الممثلين لعشائرهم، بهدف الاستفادة من هذا التمثيل مادياً ومعنوياً، ويحصل ذلك في الوقت الذي يكابد فيها أفراد العشيرة ذاتها الجوع، ويقاسي الكثير من أبنائها مرارة النزوح أو اللجوء.
من أصناف الشيوخ الذين تكشفت ملامحهم لي خلال السنوات الأخيرة، من أحب الزعامة والتصدر في كل الأمور، لكنه عندما لم يجد له مكاناً بين “الشيوخ الثائرة”، قرر اللجوء للنظام، وهو ما حصل على سبيل المثال مع شيخ أكبر عشيرة في سوريا، عندما ترك “كار الثورة”، ليجد حاجته عند النظام، مع الإشارة إلى أنه قال صراحة أمام شخصيات عشائرية وأخرى معارضة في تركيا، وقبيل أسابيع من عودته لـ”حضن النظام”، إنه ذاهب إلى روسيا، دون أن يلقى معارضة أو استنكار، لأسباب قد لا يجهلها الكثير منا، ولعل ما ذكرته في الأسطر السابقة تحمل الإجابة على ذلك.
أما الآن، فإن ما يبعث السرور إلى النفس والقلب، أن كل الشباب الواعي والمثقف بات يعرف من هؤلاء الذين خسروا كل ما يملكونه سابقاً، أو بالأحرى أظهرت الثورة أنهم لا يستحقون ما منحه الناس إياه خلال عقود. ورغم أن البعض ما زال يتمسك بـ”العشائرية” التي يستعد من خلالها لأن يناصر “شيخه” أو قريبه، حتى ولو كان على خطأ، إلا أن المبشر في الأمر، أن الأغلبية نسيت هذه “الكذبة”، ولم تعد تصدق أصحابها، ولا مرتاديها.
المجتمع الجديد، أو القادة الجدد، أو “الشيوخ الجدد” إن صح التعبير، هم أبناء العشائر الواعين والمثقفين، الذين يعرفون جيداً ما يريدون، والذين قدموا كل ما يملكونه من أجل ثورة تسعى إلى بلد تسوده العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة لأبنائها، وتجهد للتخلص من معتقدات سلبية، وأنماط حياتية ومعيشية بالية وعلى رأسها “العشائرية البعثية”، وشقيقتيها: “العشائرية الداعشية” و”العشائرية القسدية”.