*دراسة: خاص / فرات بوست
(1/4)
*توطئة:
مما لا شكّ فيه إن المواد التاريخية (الأرشيف) الموجودة ضمن مراكز الوثائق العثمانية في إسطنبول، تعتبر ذات أهمية بالغة للباحثين والمؤرخين، المهتمين بالحضارة الإنسانية، المتمثّلة بالحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية ؛ التي شهدتها شعوبُ دول كثيرة، الآن، مُقسّمة ومتوزعة على جغرافيا متناثرة، باسم دويلات أو إمارات وممالك وجمهوريات، كانت جميعها تحت حُكم واحد، تابعة للسلطنة العثمانية، التي جاءت على خلفية تفكّك الدولة المملوكية، وسقوطها على يد السلطان “سليم العثماني” سنة 921 / 1517.
فإن من يبحث في أرشيف الإمبراطورية العثمانية الذي يضمّ أكثر من 150 مليون وثيقة، تتضمن معظمها تفاصيل كثيرة عن حياة شعوب الشرق الأدنى، مرفقة بخرائط وصور وسجلّات ومخطوطات حول مناطق النفوذ والأقاليم التي كانت تقع تحت سيطرة الدولة العثمانية، ابتداء من القرن الرابع عشر حتى بداية القرن العشرين[1]، يجد أنّ المدن والقرى والبلدات آنذاك، وإلى الآن لو بنسب متفاوتة، تتميّز بتنوع القوميات والديانات والطوائف والمذاهب؛ منها التقارب (العربي الكردي) على ضفاف الفرات بشكل خاص، ومن نواحٍ عديدة؛ أهمّها الموروث الشعبي، الذي أثّر بشكل واضح على كلا الطرفين، وعلى (صوتيات – Phonetics) اللغة أيضاً، والموسيقى؛ من خلال التجاور، أو المصاهرة، أو حتى الاندماج الاجتماعي ( الاكتساب). وذلك يعني، أنّ من البديهي تكون هنالك مكونات عربية مسلمة أو مسيحية أو كردية أو آشورية، وأرمنية أو كلدانية، قد اكتسبت من بعضها البعض موروث أنثروبولوجي؛ _ سلوك التعايش _ على سبيل المثال.0
أضف إلى ذلك، أنّ هنالك شرائحَ اجتماعية وبنسب معقولة على مرّ السنين، أفرزت ثقافاتٍ متقاربةً من الملل والنِحَل الأخرى، وذلك يعزى إلى التلاقح الفكري في المجتمعات تحت الجامع “الطاغي” في المنطقة؛ ألا وهو الإسلام.
نحن في هذه الدراسة لسنا بصدد تفنيد وتمحيص أصول الأعراق والأنساب والمكونات العشائرية والقوميات ضمن بلدان الشرق الأدنى، وخاصةً في سورية؛ إنما وضعنا إشارة في التوطئة لأرشيف ضخم، ومراجع موجودة، ومتوفرة ضمن كتب ودراسات قدّمها باحثون مختصون _ عرب وأكراد وغربيون _ فيما يخص سكان ضفتي الفرات، وأصولهم وهجراتهم وأماكن تواجدهم على مرّ السنين.
لذا، عمق الدراسة هذه يعتمد على الشكل الاجتماعي والسياسي، والمقارنة بين التكتلات الاجتماعية والحزبية بين العرب والأكراد ضمن التاريخ المعاصر، إضافة إلى قراءة في إرهاصات الثورة التي نراها الآن في سورية ولمّا تزل تظهر، من خلال التشرذم الاجتماعي والسياسي، والتخندق كلٌ حسب انتمائه؛ علاوة على وصف الحالة العسكرية التي تمخّضت بعد عام 2011 نتيجة لانحراف مسار الثورة السورية السلمية نحو الصراع والاقتتال المُسلح بين أطراف عديدة بسبب تغوّل النظام السوري وإمعانه في قتل وترهيب المدنيين؛ وبحسب الآراء الجامعة على مدى أكثر من تسع سنوات، سنقدم رؤية سريعة حول الخطاب الشعوبي الذي يحمله النظام السوري والمعارضة السورية وحلفاؤهما، و تبنته شرائح كثيرة في سورية، آملين أن تكون وظيفة الفرد الواعي أو النخبة الفكرية أو السياسية والثقافية في بلدٍ يشهد حرباً دموية لم يسبق لها مثيل، هي رتق الصدع الاجتماعي الذي أحدثته الحرب، أو تقريب وجهات النظر بين أبناء سورية بكافة مكوناتهم، من خلال خطاب عقلاني وأفعال واقعية على الأرض، ومساعدة الناس من العوام على تجاوز حالات التوتر _ الأيديولوجي _ كي لا يقعوا مرة أخرى في شرك الطائفية، وينجرفوا نحو النفق المظلم الذي وضع حجر أساسه النظام السوري وحلفاؤه، وعملت على تشييده دول غربية، وأخرى تعتبر نفسها تابعة للعالم الإسلامي.
***
*إشارة إلى تاريخ الشعب الكردي في المنطقة
إن علاقة الشعب الكردي مع المكونات الأخرى في المنطقة وخاصةً العربية منها، لا تقتصر على ألف سنة مضت، أي إلى حقبة ازدهار الإسلام، من خلال فتوحاته وتوسعه نحو حدود الصين في دول الشرق الأقصى، بل كانت العلاقة وثيقة بين الأكراد والعرب ما قبل ظهور الإسلام، لكنها توطدت وصارت علاقة وثيقة بين الشعبين العربي والكردي أثناء وبعد الفتوحات الإسلامية التي شملت أيضاً بلاد فارس التي يسكن الأكراد ضمنها.
فالمستشرق الروسي “فلاديمير مينورسكي“، يرى أن الشعب الكردي قد هاجر في الأصل من شرق إيران إلى كردستان الحالية واستوطن في هذه المنطقة منذ فجر التاريخ واختلط بالأقوام القاطنة في هذه الأراضي وصاروا أمة واحدة على مدى الأيام.
ويذهب آخرون من الباحثين والمؤرخين الذين اختصوا بأنثروبولوجيا الفُرس والأكراد، منهم المستشرق الفرنسي ” توماس بوا” الخبير بالدراسات الكردية، إلى أن كردستان ” تمتد من جبال زاغروس جنوب غرب إيران، وتمتد من فارس جنوباً وحتى كرمنشاه وهمدان شمالاً، وجبال طوروس جنوب تركيا تمتد من قيصرية ونهري سيمان وجيحان شرقاً وحتى أنطاليا غرباً، وبين زاغروس وطوروس غرباً تقع سلسلة جبال كردستان شمال غرب إيران وشمال العراق.[2]
أما عن الاستقلال الذاتي الذي حظي به الأكراد عبر الحقب الماضية، وخاصةً في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، فلقد ظهرت إمارات كردية عديدة في المنطقة، شبيهة بالدول المستقلة، تنتمي كلٌ منها إلى نفوذ سياسي معيّن أو ديني، بشكل غير مباشر لتبعية الشاهنشاه (ملك الملوك باللغة الفارسية)، أشهرها كانت الإمارات (البابانية، والسورانية، والبادينانية، والكرميانية في العراق، وفي تركيا كل من (بوهتان، وباكران، وبادليس)، وفي إيران أيضاً (موكريات، وأردلان).
جاءت بعد ذلك الحروب الطاحنة في القرن السادس عشر التي تقسّمت من خلالها المناطق الكردية الواقعة بين الإمبراطورية الصفوية والعثمانية، وعليه؛ حدث انقسامٌ كبير، نتجت عنه معركة “جالديران” الشهيرة سنة” 1574ميلادي” بين جيش الدولة العثمانية بقيادة السلطان “سليم ياوز الأول” ضد قوات الدولة الصفوية بقيادة “إسماعيل الأول”، التي انتهت بانتصار القوات العثمانية.
عَقبَ ذلك بعد 125 سنة حدثٌ تاريخي، تمثّل بـ”معاهدة قصر شيرين” التي نصّت بالاتفاق: إن العثمانيين يسيطرون على بلاد ما بين النهرين والأناضول الشرقية، وشمال شرق سوريا، والصفويين لهم ” يريڤان _ أرمينيا ” و “آخالت سيخه _ جورجيا حالياً”؛ حيث استمرت هذه الاتفاقية لغاية نشوب الحرب العالمية الأولى سنة “1914م” التي سيطر من خلالها الإيرانيون عبر القرن الثامن عشر على أغلب المنطقة بقيادة “نادر شاه” بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.
وعودةً إلى التمثيل الجغرافي لشعوب المنطقة والحدود الديمغرافية وحقوقهم المشروعة؛ وخاصةً الأكراد، نرى من المُخجل أن يطالب طرفٌ ما بأحقية انتمائه لقومية وأرض معيّنة، وبيته “محتل” ومحيطه! قبل أن ينفض عنه آثار الاستعمار، ويكافح ضد الاستبداد المحلي والخارجي، ويعترف أنّه كان جزءاً من هذه الجغرافيا التي رسمها المستعمر، وقد تعايش مع ذلك لسنين طويلة، رغم نضاله المستمر لنيل (استقلاله)، على كافة المستويات؛ فمثلاً:
- (العرب السوريون) يرزحون تحت وطأةِ حكم مستبد منذ عام 1971 متمثلاً بـ “نظام الأسد” ويعتبرونه احتلالاً مباشراً وجسّماً غريباً عن الشعب السوري، جاء بفضل مؤامرة غربية (بريطانية-أمريكية) وبموافقة قوى كبرى، وأطراف فاعلة (الاتحاد السوفييتي -إسرائيل -قيادات خليجية)؛ وباستطاعتنا القول، إن هنالك (أقليات دينية) في سورية ترى أن وجود النظام السوري (شرعي)، نتيجة الخطاب الطائفي الذي صدّره الأخير حول تعاظم القوى الإسلامية منذ الثمانينيات التي تهدد باقي المكونات السورية، وهذا ديدن كل نظام مستبد يعتمد على نظريات زائفة تتبناها القوى الإمبريالية العالمية.
أما الأكراد، فهم قد ذاقوا الأمرين من النظام السوري، وعانوا من حرمان ممنهج طيلة حكم “نظام الأسد”، مثلهم مثل العرب (السنة)؛ وكانت لهم بصمة استثنائية في انتفاضتهم الجريئة ضد النظام السوري في 12 آذار عام 2004 التي أسفرت عن استشهاد نحو 40 شخصاً وجرح المئات برصاص قوات الأمن السورية. هنا، العدو واضح، قبل هذا التاريخ (الانتفاضة).
إذن، علينا ترميم دواخلنا، والاستيقاظ من أحلام وردية وفزاعات يومية زرعها الغربُ في حيواتنا نحن السوريين، عرباً كنا أو أكراداً أو من أي مكونٍ ديني أو قومي داخل سورية!
ويرجع ذلك لحجم الوعي ولمدى معرفتنا بالتاريخ، وقراءة سيناريوهات الأحداث الجارية ومقارنتها بالماضي، لنخلص إلى نتيجة إيجابية، بأفعال واقعية (نجسدها) على الأرض، تنتشلنا من هذا الحضيض التاريخي، الذي كنا نحن مساهمين بصناعته بشكل مباشر أو غير مباشر!
وليس علينا المطالبة بحقوق تاريخية أصبح من المستحيل استردادها؛ فإن قلنا على سبيل المثال ” إن سكان محافظة دير الزور يعود أصلهم إلى القطر العراقي، بحيث ضمت المحافظة إلى سورية من خلال “اتفاقية الشر _سايكس بيكو ” بدلاً عن محافظة الموصل العراقية؛ فهل يخرج أهالي دير الزور كي يطالبوا بأحقيتهم بأرض الموصل أو الانتماء مجدداً إلى تلك الجغرافيا؟!
والعكس أيضاً ينطبق على كافة المدن والمحافظات الحدودية بين سورية وتركيا والعراق، الغنيّة بالتنوع المذهبي والديني والقومي، التي قسّمتها تلك الاتفاقية المشؤومة؛ فهنا لسنا بصدد بخس حق أي مكوّن أو التقليل من تراثه وثقافته وانتمائه الديني، وللأكراد كما للمكونات الأخرى موروثهم الفكري والأدبي والاجتماعي، ومن أبسط حقوقهم أن ينالوا حريتهم من الاستبداد كشعب عريق، ويحظوا بحياة كريمة، ويكون باستطاعتهم التكلم بلغتهم الأم، ويعيشون حياة طبيعية مثل باقي الشعوب الحرّة؛ أما إن وقفنا أمام مطالب أحزاب سياسية كردية وفصائل كردية عسكرية تطمح إلى ضرب العمود الفقري للنسيج الاجتماعي السوري بداعي “فدرلة” الشمال السوري، والانفصال عن مكونات أخرى التي تعتبر العربية أغلبها، فهذه ليست إلا محاولة لاستجرار مستقبل مجهول، سوف يؤدي بالمنطقة إلى نزاعات طويلة الأمد، لربما تتحول إلى حروب أهلية بالكلمة الحقيقية، غير تلك التي يروّج لها الأمريكان والبريطانيون والغرب، الذين يدّعون أن الانتفاضة الشعبية في سوريا هي مجرد حرب أهلية!
ونرى أيضاً، الأحزاب الكردية التي تنطق باسم الفصائل العسكرية على الأرض، رغم “الطعنات” التي تلقتها وتتلقاها من قبل حليفها الأكبر” أمريكا”، لا ترفع شعار “التوبة” الوقوع بالشرك والمصيدة مرة أخرى، وتحاول جاهدةً على كافة الأصعدة الذهاب لحفاء آخرين، مثل الفرنسيين، والبريطانيين، وحتى النظام السوري، الذي يُعتبر “فاسد الصلاحية”، ولا يستطيع منح أية مظلة لأحد، بل هو الآن متشبث بأردية الإيرانيين والروس، كي لا ينهار ويذهب رموزه على رأسهم “الأسد” إلى المحاكم الجنائية الدولية.
فعلامَ يعوّل الأكراد (الأحزاب السياسية)؟ هل يريدون أن تخرج كل المكوّنات العربية وغيرها من الشمال السوري (الحسكة) ومن “عفرين” وغيرهما، أية قرية تسكن فيها عائلة كردية، بذريعة الحق التاريخي لهم في هذه المنطقة؟
حسنٌ، لنقل من باب الافتراض (وهنا نقحم أغلب الرأي العام) إذا كل الأكراد في سورية (شعباً وأحزاباً وفصائل) اجتمعوا على كلمة واحدة وطالبوا بحق الانفصال عن باقي المكونات ضمن “دويلة أو إقليم”، وقد تحقق لهم ذلك؛ فهل باستطاعتهم التعايش بعيداً عن مكون رئيس (العرب) في المنقطة ضمن هذا الوضع المكتظ بالنزاعات والحرائق والضعف الاقتصادي؟!
قد يذهب البعض إلى أن هناك مثالاً في العراق هو “كردستان العراق” يمثل أنموذجاً ناجحاً في التعايش والاقتصاد المزدهر والهدوء الاجتماعي. نعم، هذا صحيح، لكن ثمة فارق جذري بين العراق وسورية، إضافة إلى البعد الجيوسياسي المختلف عن الجغرافيا السورية، علاوة على الزخم العشائري المتواجد في الشمال الشرقي السوري، الذي يعتبر بيضة القبان هناك، أمام التواجد الكردي مع باقي الأقليات الدينية. وكلنا يعرف، أنّ الوضع السوري المُعقّد، لا يشبه أي صراع آخر في الشرق الأوسط على وجه التحديد.
“إن كل أمّة يحق لها العيش والتكلم بلغتها وممارسة حياتها وبناء وتطوير مقدراتها، لكن هل يحق لأحد في سورية أن يذهب إلى محاولة تقسيم المُقسّم، وسورية أصبحت تعيش حالة نزاع قد يتحول بأية لحظة إلى حرب أهلية جرّاء ما فعله النظام السوري وحلفاؤه مع تخاذل أنظمة الحكم العربية وتآمرهم مع أمريكا وبعض من دول أوروبا!”
نحن لا نستطيع أن نعيد الزمن نحو الوراء، كي نرفض بقوة ونكافح ضد اتفاقية ” سايكس بيكو“، التي تعتبر زلزالاً عنيفاً تحت أقدام الأمة العربية والإسلامية، أعاد تشكيل ديمغرافية جديدة أثّرت على النسيج الاجتماعي في الشرق الأدنى، نتيجةً تخاذل قادة (عرب)، منهم (الشريف حسين)، وتصديقهم لمكر بريطانيا وفرنسا، وروسيا القيصرية، التي أفشت سرَّ تلك المعاهدة عقب انتهاء مصالحها (مخططاتها) بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917.
لذا، يتوجّب علينا كسوريين تحت سماء سورية دون أية مسميات أخرى، طبعاً بعيداً عن روح الثأر والضغينة بسبب الوضع الموتور، أن نعمل على استنهاض القوى الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية، لتجاوز هذه المحنة الصعبة (الحالية) والشرك الصهيوني العالمي، الذي وقعنا فيه مجدداً، ونحاول أن نرمم ملامحنا كي ننجو من أية فخاخ قادمة.
نهاية الجزء الأول؛ يتبع..
مراجع:
[1] نجاتي أقطاش _ عصمت بينارق ـ أرشيف الدولة العثمانية: ترجمة صالح سعداوي ـ مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية / الصفحة 8 ــ 20
[2] ــ توماس بوا ــ (تاريخ الأكراد) ترجمة: محمد تيسير ميرخان /دار الفكر بدمشق عام 1422هـ 2001 م / ملخص دراسة.