المعتقلات هن الجميلات
قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011 لم أفكر يوماً ما معنى أن يكون الإنسان معتقلاً، وحريته تختنق وتحتضر داخل جدران العدم.
ومنذ اندلاع الثورة في سوريا استحوذت كلمة “معتقلة” على تفكيري، وذقت مرارتها أول مرة عندما قابلت هبة “اسم مستعار”، يومها كنت في مدينة المعضمية، وأخبروني بعض أهالي المنطقة عن قصتها، لم أصدق ما روي لي من حجم الفظاعات التي تعرضت لها، حتى قابلتها وقصت لي ما حدث معها، وذلك عندما استوقفها حاجز الأربعين التابع للفرقة الرابعة، وقد كانت برفقة حماتها وسلفتها، أثناء عودتهن من المشفى للمعضمية، وبعد مضي خمسة أيام على وضع هبة لمولودها، عندئذ استوقفهن الحاجز، وطلب أحد العناصر منهن الترجل من الميكرو ومن ثم تم ادخالهن لداخل الحاجز، ليتعرضن للاعتداء الجنسي والضرب والإذلال.
جلست مع هبة لمدة لم تتجاوز 45 دقيقةً، لم أحتمل حجم الألم الذي تعرضت له، شعرت وكأنني أعيشه عوضاً عنها، عدت للمنزل على أمل أن أكتب قصتها، ولكنني لم أستطع أن أكتب حرفاً واحداً عنها، على الرغم من أن قصتها ظلت ملازمة لتفكيري، وكلماتها حاضرة أمامي، أحاول نسيانها ولكنني لم أفلح. كذبت على نفسي وأقنعتها أن الأمر طبيعي، فهذه المرة الأولى لي أقابل معتقلة من خلال عملي الصحفي، ومع الأيام سأعتاد على الأمر. ولكن في كل مرة أقابل ناجيةً، أو أقرأ عن قصة إحداهن من خلال الإعلام أو التقارير الحقوقية، أشعر بقشعريرة تستفز مسام جلدي، إحساس بالغبن والعجر أمام حجم معاناتهن ولاسيما في سجون النظام السوري. فما بين آذار 2011 ولغاية تشرين الثاني 2015 وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان من خلال تقرير لها نشرته بعنوان “المرأة السورية في وسط الإعصار” عام 2015 عن احتجاز مالا يقل عن 7029 أنثى من بينهن 6711 أنثى بالغة، ومن ضمنهن 1115 حالة اختفاء قسري. كما نشرت الشبكة تقرير آخر عام 2016 بعنوان “الألم الممتد” ووثقت مالا يقل عن 2377 حالة اختفاء قسري لدى النظام السوري.
فاجعتي كانت عندما رأيت صورة رحاب العلاوي لأول مرة وجثتها ممددة بين الجثث وكتب على صدرها وجبينها رقم 2935، تأملت طويلاً في وجهها المائل للزراق، حاولت أن أتخيل جثتي عوضاً عنها، وتساءلت فيما كانت تفكر لحظة مفارقتها للحياة. هل تمنت الموت أم كان لها أحلام كثيرةَ أرادت تحقيقها بعد أن يتم الإفراج عنها؟ هل فكرت بوالديها، وتمنت آلا يحزنوا عليها بعد رحيلها؟ هل كان لها حبيب تشتاقه وأرادت ملاقاته قبل موتها؟ هل تمنت الموت أم قاومت جلاديها وتمسكت بحبل الحياة كمبدأ غريزي قبل أن ترحل عنا!
أسئلةٌ كثيرةٌ ولدت في رأسي حول أسرار رحاب والتي بقيت طي الكتمان لترحل معها، مثلها مثل 24 امرأةً غيرها وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتلهن تحت التعذيب على يد النظام السوري، وذلك من خلال تقرير نشرته الشبكة بعنوان “الهولوكوست المصور” الصادر عام 2015.
أعود وأتأمل في وجه رحاب ليكشف لي هذا الوجه زيف المجتمع الدولي وسخف الموت أمامها، أيعقل أن تعتقل وتعذب وتقتل هي و24 غيرها دون أن يهتز للعالم جفن! وتبقى صورتها مجرد صورة مسربة لشابة قتلت تحت التعذيب، أما القاتل فما زال مزهواً بإجرامه.
وإذا المعتقلة وئدت:
كم من ناجية خرجت من السجن وهو المعتقل لتواجه السجن أكبر وهو المجتمع! في إحدى المرات قالت لي صديقتي عندما خرجت من المعتقل:
“السجن مراحل….. منها مرحلة الاعتقال ومنها مرحلة ما بعد الاعتقال وفيكي تشبهي هي المرحلة بالمعتقل التابع للمجتمع”
فعندما يتم الإفراج عن المعتقلات، تنصدم البعض منهن مع الصورة النمطية المرسومة لها مسبقاً، من أنها قد تعرضت للاغتصاب، وتنهال عليها الأسئلة من بعض المقربين لها لتنم عن فضولهم في حال مازالت عذراء أم فقدت غشاء بكارتها، وكأن لغشاء البكارة قيمة أثمن من حرية الإنسان في نظر البعض، حتى يقلقوا على خسارته أكثر من خسارة الإنسان لحريته! وضمن هذا القلق الاجتماعي كم من عملية اغتصاب مجتمعي وقعت بحق الناجيات المفرج عنهن سواء من قبل أهلها أو أقربائها أو زوجها. ولكن ما قيمة غشاء البكارة أمام التعذيب الجسدي والنفسي الذي يمارس على المعتقلات، من ضرب ولكم وشبح وصعق بالكهرباء، وما قيمته أمام إذلالهن واستخدامهن كسلاح حرب!
وعلى الرغم من عدم تعرض جميع المعتقلات للاغتصاب، ولكن ذلك لا ينفي التهمة عن النظام السوري من أنه قام باغتصاب عدد منهن، حيث لجأ عناصر الأمن داخل الأفرع الأمنية لاغتصاب المعتقلات بهدف ابتزاز خصمهم، وأيضاً كنوع من التعذيب الجسدي والنفسي لهن، وهذا ما أكدته الشبكة الأوربية المتوسطية في تقرير لها نشرته عام 2015 بعنوان ” احتجاز النساء في سوريا سلاح الحرب والرعب”
كما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان من خلال جمع شهادات المعفنات في سجون النظام السوري بعنوان “اغتصاب الياسمين، العار المستدام”، والذي تضمن توثيق قصص سبع فتيات تعرضن للاغتصاب من قبل النظام السوري، كما وثقت الشبكة تعرض مالا يقل 7672 حادثة عنف جنسي مورست بحق المحتجزات ويتوزعن إلى 7244 أنثى بالغة، و428 أنثى طفلة، ومن بين الحالات قرابة 850 حادثة حصلت داخل مراكز الاحتجاز.
الاغتصاب الذي تعرضت له المعتقلات لم يقتصر على الاغتصاب الجنسي، أو الاغتصاب الاجتماعي، بل هناك الاغتصاب الإعلامي والذي مارسه النظام السوري بحق معتقلات أجبرهن على التحدث عبر شاشات إعلامه، ليروج عبرهن لأجندات إعلامية منها فكرة انتشار جهاد النكاح بين المعارضة المسلحة، بهدف تشويه صورة المعارضة والمساس من كرامة النساء اللواتي يقفن إلى جانب الثورة السورية، ولكن آلا يعلم صناع الإعلام السوري أن مزمار الحي لا يطرب!
ففي عام 2013 بثت الفضائية السورية الموالية للنظام السوري وثائقي لثلاث معتقلات وهن: سارة العلو وفاطمة فروخ وفريال عبد الرحيم، تحدثن عبر مسرحية هزيلة من إخراج النظام السوري حول إجبارهن للممارسة جهاد النكاح مع مسلحين من فصائل المعارضة.
أعاد إعلام النظام الكرة عام 2014 وبث مسرحية أخرى لروان قداح، وقد كانت ابنة 17 عاماً آنذاك، من خلال إجراء مقابلة معها بثتها قناة الإخبارية السورية الموالية للنظام السوري، بعنوان ” أب يبيع شرف ابنته” حيث أجبرت روان على سرد قصة درامية خيوطها وهمية نسجت حول والدها الذي استغلها جنسياً وأجبرها على ممارسة الجنس مع مسلحين من فصائل المعارضة. فعلى ما يبدو صناع إعلام النظام السوري قد كذبوا وكذبوا حتى صدقوا الكذبة، حيث وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قيام النظام السوري بإجبار ما لا يقل عن 14 امرأةً بينهن فتيات دون سن 18 للحديث عبر شاشات إعلام النظام السوري، بأنهن مارسن الجنس مع مقاتلي المعارضة وذلك بطلب من أهلهن. أما لمريم حايد قصة مختلفة وبعيدة عن مرمى صناع الإعلام في ترويج لفكرة جهاد النكاح عبرها، ولكنها لا تختلف عن باقي المعتقلات في كونها أجبرت هي الأخرى على قول الأكاذيب عبر شاشات إعلام النظام السوري.
تعتبر هذه الممارسات التي يقوم بها النظام السوري انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، حيث يحرم البرتوكول الثاني المضاف لاتفاقيات جنيف، القتل والتشويه والتعذيب والمعاملة القاسية اللاإنسانية والمهينة للمعتقلات والمعتقلين، واحتجاز الرهائن والمحاكمات غير العادلة.
كسر حاجز الصمت
في عام 2016 أطلقت شبكة المرأة السورية حملةً إعلاميةً بعنوان سوريا وطن لا سجن كان هدفها المطالبة بالمعتقلات والمعتقلين من خلال عدة نشاطات من ضمنها إعداد كتيب يستقرئ واقع المعتقلات والمعتقلين في ظل قوننة الاستبداد من قبل النظام السوري، وإقامة المحاكم الصورية التي تغطي الجرائم التي يرتكبها بحق المعتقلات والمعتقلين. خلال مشاركتي في إعداد الكتيب استوقفني فصل بعنوان “أدب السجون” والذي سلط الضوء على تجارب الكاتبات والكتاب ممن تعرضن/م للاعتقال، فدفعني الكتيب لأغوص في تجربة هنادي زحلوط والتي اعتقلت بدايات الثورة السورية من قبل فرع الجوية، لتستعرض من خلال كتابها “رسالة إلى ابنتي” تجربتها عن الاعتقال، وتنعش الذاكرة حول أهمية التدوين وأهمية السير الذاتية، والتي على ما يبدو كانت وسيلة زحلوط لفضح إرهاب النظام السوري الذي يمارسه بحق المعتقلات. كذلك حال الكاتبة هبة دباغ والتي روت تفاصيل اعتقالها من قبل النظام السوري في رواية حملت عنوان “خمس دقائق وحسب” والذي دام تسع سنوات، بدت من خلال كلمات هبة وكأنها تسعة آلاف سنة من التعذيب والإذلال في سجون النظام السوري. وتحفل اليوم الذاكرة السورية بالعديد من الكاتبات السوريات ممن عشنا تجربة الاعتقال ووثقن هذه التجربة من خلال الأدب مثل حسيبة عبد الرحمن، روزا ياسين حسن.
بالإضافة لحملة سوريا وطن لا سجن لم يبخل النشطاء والحقوقيون من إطلاق حملات مناصرة طالبت بالمعتقلات والمعتقلين، وعلى رغم من وقوف البعض ضد هذه الحملات بدعوى أنها لم تعد مجدية، ولا تقدم ولا تأخر، ولاسيما بعدما تم تسيس ملف المعتقلات والمعتقلين، ولكن تبقى الحملات المناصرة المطالبة بهن/م أحد الأدوات الممكنة لإيصال أصواتهن/م من داخل السجون والأفرع الأمنية، وأيضاً كدلالة عن حق المعتقلات والمعتقلين علينا أن تبقى قضيتهن/م حاضرة في الأذهان، ومن أجل ذلك أطلقت “حلقة سلام عنتاب” حملة مناصرة بعنوان ” المعتقلات هن الجميلات” حيث تغص السجون اليوم بمئات المعتقلات والمختفيات قسراً ومن يدري لربما تؤتي هذه الحملات غداً أكلها وتفرغ السجون منهن، بما يتماشى مع المادة “12” من قرار مجلس الامن 2254، ومضامين ما ورد في وثيقة جنيف 1، وكذلك المادة 3 المشتركة من معاهدات جنيف، والبرتوكول الثاني المضاف لهذه الاتفاقيات ضمن القانون الدولي الإنساني
لمى راجح_ شبكة انا هي
314
المقال السابق