خاص – فرات بوست
أصبح كسر حصار دير الزور المعلن من قبل قوات النظام والميليشيات المتحالفة معها، حديث الإعلام اليوم الثلاثاء، وتوهم العالم بأسره، أن “جيش النظام” المنقذ الحقيقي للسوريين من تنظيم داعش، وأن دير الزور “تحررت” على يديه بشكل شبه كامل، لكن الواقع على الأرض وتاريخ ما حصل في هذه المنطقة، يقولان رواية أخرى.
قصة حصار دير الزور بدأت في منتصف يناير/ كانون الثاني 2015، لكن لم يقم الإعلام بشقيه المعارض للنظام أو المؤيد له، بالخوض في خلفيات الحصار الذي نفذه التنظيم، بعد نحو ستة أشهر من احتلاله أغلب دير الزور عقب طرد مقاتلي المعارضة و”جبهة النصرة” منها.
في نهاية عام 2014، عمد إعلام النظام والشبكات الموالية له، إلى نشر عشرات الصور والفيديوهات التي تظهر تمثيل جنوده وشبيحته بجثث عناصر من داعش تم سحبها من جبهات القتال في دير الزور، وخاصة أطراف المطار العسكري.
هذه الحادثة تكررت أكثر مرة، وحاول خلالها النظام إظهار إن السكان المدنيين يشاركونه في عمليات التمثيل هذه، وأنها تنال رضاهم وتأييدهم.
اتخذ التنظيم آنذاك قراره بحصار ما تبقى من أحياء وقرى في دير الزور خاضعة لسيطرة النظام، ألا وهي قريتي عياش والبغيلية وأحياء الجورة والقصور ومساكن عياش وأجزاء من أحياء الموظفين والعرفي والجبيلة في الجانب الغربي من المدينة، وقرية الجفرة والمطار العسكري وحيي هرابش والطحطوح وأجزاء من أحياء أخرى في الجانب الشرقي منها.
النظام مع بدء الحصار، عمد إلى الترويج لأكاذيب وبث روايات تخدم وجهة نظره، وتخفي الجانب الأكبر من الواقع، يدعمه في ذلك الإعلام العربي والأجنبي المؤيد له، وفي بعض الحالات تلقى دعماً غير مباشر وربما غير مقصود من إعلام المعارضة لترويج هذه الروايات.
أولى هذه الأكاذيب وأشهرها، المبالغة في أعداد المدنيين المحاصرين، بهدف جلب التعاطف الدولي واستغلال هذه الورقة سياسياً، لكن الحقيقة تقول، إن عدد سكان المناطق المحاصرة كان نحو 350 ألف قبيل الحصار، ومع إعلان داعش منع الدخول إلى هذه الأحياء والسماح للمدنيين الراغبين بالخروج منها، تقلص إلى هذا العدد خلال الأشهر الأولى بشكل كبير، قبل أن يقرر النظام إغلاق طريق الخروج إلا عبر الطائرات، وبعيد دفع مبالغ مالية كبيرة.
استمر تقلص أعداد المدنيين خلال السنتين الماضيتين، ليصل العدد التقريبي الموجود حالياً إلى نحو 60 ألف نسمة كما تشير التقديرات، لكن النظام استمر إلى الآن في ترويج كذبة أن أعداد المحاصرين تقارب الـ200 ألف، وفي بعض الأحيان يقلل العدد إلى 150 ألف.
الكذبة الأخرى، ترويج النظام للعالم، أن الحصار كان من قبل داعش فقط، بينما اشترك كل منهما به، ولعل الأشهر الأولى أكبر دليل على ذلك، عبر منع النظام خروج المدنيين بعد أشهر من بدء الحصار الذي فرضه داعش آنذاك للداخلين إلى هذه الأحياء فقط، وسمح بعبور الخارجين منها، لكن النظام وبعد أن شعر بأن هذه الأحياء ستفرغ من المدنيين نتيجة النزوح الكثيف، منع المدنيين من الخروج (إلا بعد دفع مبالغ كبيرة)، بهدف اتخاذهم دروعاً بشرية، ولأجل الإبقاء عليهم كورقة سياسية وإعلامية يستخدمها لمصلحته.
الكذبة الثالثة التي روجها النظام محلياً ودولياً خلال سنوات الحصار، تقول إن همه الأساسي كانت معاناة المدنيين في الداخل، وأنه كرس طائراته مع الطائرات الروسية من أجل ذلك، وبالفعل كانت هناك حالات إلقاء مظلات تحمل مساعدات بشكل شبه يومي، لكن أغلبها ليس للنظام، وإنما هي مساعدات أممية، بينما كانت مساعدات النظام والروس محدودة جداً، وأغلبها كان يعتمد على إلقاء الوقود لتشغيل آليات النظام، أو لإلقاء السلاح، وقليل منها تضمن الغذاء.
النظام روج كذبة أخرى، عبر بث أرقام وإحصائيات عن الخدمات الصحية التي يقدمها، وأنها بفضل جهوده ما تزال تحت السيطرة، ومنع نشر الكثير من التقارير التي تفيد بتفشي الأمراض بين السكان المدنيين، ليتم تداولها عبر كتب سرية بين الجهات الحكومية التابعة للنظام، ولم يسمح بتسريب إلا البعض منها، ولغايات معينة.
ولعل السائل هنا يضع إشارات استفهام حول أسباب إقدام النظام على ذلك، والإجابة تؤكد أن النظام لا يريد أن يكشف أن الجوع والمرض والأوبئة منتشرة بين المدنيين فقط، دون جنوده وشبيحته وعناصر الميليشيات التابعة له، والأمر الآخر، أن المساعدات الأممية المخصصة للمدنيين كانت الأدوية جانب مهم منها، لكن أغلبها يذهب إلى قوات النظام وعناصر الأمن والميليشيات، أما الجانب الآخر، فهي استمرار النظام في ترويجه رواية أنه قادر على إدارة المناطق المدنية حتى في أقسى الظروف، بعكس ما هو عليه الحال في مناطق المعارضة.
من الأكاذيب التي روجها النظام، وتصاعدت خلال الساعات والأيام الماضية، هي إيهام العالم بأنه المنقذ الوحيد للمدنيين السوريين من الجوع والقتل والحصار، وأن الجانب الإنساني طغى على الجانب السياسي والعسكري في معركة فك الحصار.
لكن الواقع يشير، إلى أن الجوع والقتل والحصار خاصة لأبناء دير الزور، ارتكبته هذه القوات بحقهم أكثر من داعش بأضعاف مضاعفة، ولعل من المناسب هنا، التذكير بمجزرة الجورة والقصور التي نفذتها قوات النظام بحق المدنيين القاطنيين في ذات الأحياء التي يروج اليوم أنه “المخلص لها”، حيث قتل في 25 سبتمبر/ أيلول 2012 أكثر من 300 مدني بدم بارد، بهدف إخضاع وترهيب أبناء المدينة.
ولا يمكن في هذا الإطار، التغاضي عن ذكر أن النظام لم يتوقف طوال السنوات الخمس الماضية (عبر استخدام ذات المناطق التي أدعى تخليص سكانها من الحصار) من دك أحياء دير الزور الأخرى غير الخاضعة له بكافة أنواع الأسلحة، ما أدى إلى مقتل وجرح الآلاف من المدنيين.
الكذبة الجديدة التي يروج لها الآن نظام الأسد، هي أنه عبر إنجازه العسكري اليوم، تمكن من السيطرة على دير الزور كاملة أو أغلبها، لكن في الحقيقة لم يتغير الواقع الميداني لمدينة دير الزور سوى في فك الحصار، بينما بقيت أكثر أحياء المدينة وريفها خارج سيطرته، كما هو عليه الحال منذ سنوات، أي أن الإعلام الذي عنون أخباره بقدرة قوات النظام على “تحرير دير الزور” يجافي الحقيقة، والواقع أنه فك الحصار عن أحياء تقع تحت سيطرته، دون أن يتقدم شبراً واحداً في الأحياء الأخرى التي فقد السيطرة عليها منذ أكثر من 5 سنوات.
بقلم الصحفي في فرات بوست : محمد العمر