دراسة: استراتيجية “إسرائيل” في جنوب سوريا

by Ahmad b..d

*فرات بوست: دراسات ومتابعات 

ترجمات فريق العمل ـ  المصدر: “Etana Syria

 

إسرائيل

في اليوم نفسه الذي خرج فيه السوريون إلى الشوارع للاحتفال بسقوط بشار الأسد، دخلت “القوات الإسرائيلية” الأراضي السورية لأول مرة منذ عقود – تدبيراً يُفترض أنه مؤقت وسط أجواء البهجة وعدم الاستقرار وانعدام الأمن الناتج عن لحظة ما بعد الأسد مباشرةً. ومع ذلك، لم تظهر سوى علامات قليلة على هذا التدبير المؤقت منذ ذلك الحين. بعد احتلال مئات الكيلومترات المربعة من الأراضي الواقعة خارج مرتفعات الجولان المحتلة، أنشأت “إسرائيل” فعلياً أربع مناطق داخل سوريا تسمح لها بنشر قوات في مواقع أمامية خارج “إسرائيل” أو الأراضي التي تحتلها، أو شن غارات منتظمة داخل سوريا، أو فرض نفوذها في عمق سوريا من خلال المراقبة الجوية والغارات الجوية.

لقد انتهكت تصرفات “إسرائيل” في سوريا منذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 السيادة السورية مراراً وتكراراً، وزعزعت بشدة استقرار المرحلة الانتقالية الهشة أصلاً التي تشهدها البلاد. في الوقت نفسه، فإن الخطوات التي اتخذتها الإدارة المؤقتة نفسها – بما في ذلك ترسيخ سلطة المتشددين ودمج شخصيات مرتبطة بفكر متطرف في قوات الأمن – مكّنت إسرائيل من تعزيز عدائها، والتي أظهرت، لا سيما في أعقاب 7 أكتوبر/تشرين الأول، عزمها على تأمين حدودها بأي ثمن. ورغم ندرة الدلائل حتى الآن على وجود تهديد عسكري كبير يواجه “إسرائيل” من الأراضي السورية، فمن المتوقع أن يتفاقم احتلال “إسرائيل” وتمركزها في جنوب سوريا، حتى لو أدى ذلك إلى تأجيج ديناميكيات الصراع والعنف داخل سوريا.

تشير الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا إلى رغبة في إبقاء السلطات المؤقتة ضمن الخطوط الحمراء التي حددتها “إسرائيل”؛ فقد مثّلت الضربات الأخيرة على وزارة الدفاع ومواقع أخرى في دمشق ردًا على أعمال العنف في السويداء تحذيرًا قويًا من “إسرائيل” بأنها قد تُحمّل السلطات المؤقتة تكاليف باهظة إذا لم تلتزم بالقواعد التي وضعتها “تل أبيب”. ومع ذلك، فإن الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة في السويداء ودمشق عززت موقف السلطات المؤقتة ضد الفصائل الدرزية في الجنوب، ورسخت الانقسامات الطائفية والشكوك المتبادلة بين الطرفين المتحاربين – وهو مثال آخر على كيف أن تدخل “إسرائيل” في الجنوب يُزعزع الاستقرار ويُضرّ بمرحلة ما بعد الأسد الهشة أصلًا.

«خلفية»

في عهد بشار الأسد، لعبت سوريا دورًا حيويًا كقناة إقليمية ولوجستية وأيديولوجية لخدمة الأهداف الاستراتيجية لإيران في المنطقة. استغل النظام الأراضي السورية والبنية التحتية العسكرية والعلمية والجيش والأجهزة الأمنية لإنتاج أسلحة متطورة لخدمة أهداف إيران الإقليمية، بالإضافة إلى ترسانة من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية وأسلحة أخرى، كان العديد منها موجهًا إلىحزب الله في لبنان. في الوقت نفسه، حافظت “إسرائيل” على نوع من الألفة مع الأسد رغم ترسيخ الوجود الإيراني: كان كيانًا معروفًا يُمكن احتواؤه في مواجهة “إسرائيل” نفسها. كما عملت روسيا بفعالية كضامن بين سوريا و”إسرائيل” على مدار عقود من حكم آل الأسد. وبموجب هذا الترتيب، يُمكن لإسرائيل الضغط على المسؤولين الروس لإثارة مخاوفهم و/أو إعادة تأكيد الخطوط الحمراء – وهو تفاهم أدى إلى إنشاء آلية إسرائيلية روسية لفض النزاع في جنوب سوريا بعد تدخل روسيا في الصراع السوري عام 2015.

إسرائيل

تغيرت معالم هذه الاتفاقات الرسمية وغير الرسمية بشكل لا رجعة فيه في أعقاب التصعيد الإقليمي الإسرائيلي الذي أعقب هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على غزة و”إسرائيل”. في سوريا، اتسم هذا التصعيد بغارات برية، وإنشاء تحصينات دفاعية داخل القنيطرة، وحملة غارات جوية أحادية الجانب أسفرت عن مقتل كبار القادة الإيرانيين وحزب الله والبنية التحتية للقيادة والتحكم. كما أدى الاستخدام المتكرر للوكلاء الإيرانيين للأراضي السورية لشن هجمات صاروخية وطائرات مسيرة عبر الحدود تستهدف مرتفعات الجولان المحتلة و”إسرائيل” إلى خلق قواعد اشتباك جديدة مع النظام، حيث ضربت “إسرائيل” وحدات وقواعد للنظام يُعتقد أنها تتعاون مع، أو تُسهّل ضمنيًا، أنشطة إيران وحزب الله على الأراضي السورية.

ومع ذلك، فإن انهيار النظام، وصعود أحمد الشرع، زعيم “هيئة تحرير الشام” السابق، إلى الرئاسة المؤقتة، وضع “إسرائيل” أمام معضلة استراتيجية جديدة كليًا: حكومة غير مستساغة وغير مألوفة على حدودها. وكان رد فعل “إسرائيل” سريعًا: فور سقوط النظام، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أن “إسرائيل” لن تعترف باتفاقية نزع السلاح لعام 1974 المتعلقة بالجولان المحتل وشريط حدود قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF) منزوع السلاح في محافظة القنيطرة. في حديثه من الجولان المحتل، في اليوم نفسه الذي خرج فيه السوريون إلى الشوارع احتفالًا برحيل الأسد، أعلن نتنياهو أنه أمر القوات الإسرائيلية “بالسيطرة على المواقع [التي هجرها جيش النظام] لضمان عدم تمركز أي قوة معادية بجوار حدود إسرائيل”، وهو وضع ادعى أنه مؤقت “حتى يتم التوصل إلى تسوية مناسبة”. مهما كانت طموحات هذه الخطوة، إلا أنها كانت مجرد خطوات أولية. في الواقع، احتلت القوات الإسرائيلية كامل الشريط الحدودي الذي تبلغ مساحته 235 كيلومترًا مربعًا، بينما شنّ سلاح الجو الإسرائيلي واحدة من أكبر الحملات الجوية في التاريخ لتدمير مخزونات أسلحة النظام وإضعاف قدرات ما تبقى من الجيش السوري بشكل كبير.

*مواد ذات صلة:

توم باراك: “إسرائيل” ترى أن حدود “سايكس بيكو” لا معنى لها!

إسرائيل

على الرغم من أن هذه التدخلات كانت مبنية في البداية على سردية الأمن القومي، فقد استخدمت “إسرائيل” تهديدات مباشرة وضمنية بمزيد من الهجمات لنزع السلاح بشكل فعال من جميع الأراضي الواقعة جنوب دمشق تقريبًا وتحديد التركيبة الأمنية وطبيعة انتقال سوريا بعد الأسد. في الأشهر الستة التي انقضت منذ انهيار النظام، عززت “إسرائيل” احتلالها العسكري للشريط الحدودي، وهاجمت وحدات عسكرية في القنيطرة ودرعا، وفرضت نفوذها في عمق البلاد من خلال مزيج من التوغلات البرية والغارات الجوية المخترقة والمزعزعة للاستقرار وجهود القوة الناعمة على الأرض. كما أن الغارات الجوية التي استهدفت وحدات وزارة الدفاع والجماعات المسلحة المتحالفة معها التي هاجمت التشكيلات الدرزية في دمشق وحولها في وقت سابق من هذا العام، ثم مرة أخرى في السويداء في تموز، وضعت أيضًا خطًا أحمر آخر حول السويداء وبقية المجتمعات الدرزية في البلاد، مما قدم للسلطات المؤقتة مشكلة أخرى مستعصية على طموحاتها في جميع أنحاء البلاد.

من الثوابت منذ تأسيس الكيان المحتل (إسرائيل) عام 1984 أنها بمجرد سيطرتها على أرض، لا تتخلى عنها تقريبًا (انسحابها من جنوب لبنان عام 2000 لم يكن إلا نتيجة حملة حرب عصابات منظمة وفعّالة للغاية شنّها حزب الله). بدلًا من ذلك، تخلق “إسرائيل” واقعًا جديدًا على الأرض، ثم تنتزع تنازلات من دول المنطقة.

«الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل في جنوب غرب سوريا»

في نهاية المطاف، يُسترشد احتلال “إسرائيل” لجنوب غرب سوريا وتدخلاتها فيه بأربعة أهداف استراتيجية شاملة:

الأمن: أدّى احتلال “إسرائيل” وتوغّلها في المزيد من الأراضي السورية (خارج الجولان المحتل) من السيطرة على مرتفعات استراتيجية في المنطقة، مما مكّنها من توسيع نطاق عمليات الاستطلاع والمعلومات الاستخبارية في كل من سوريا ولبنان.

السيطرة على سلسلة جبال حرمون/ الشيخ: وبالمثل، تُوفر السيطرة على سلسلة جبال حرمون تغطية مراقبة فعّالة لكامل منطقة جنوب شرق لبنان.

الأمن المائي: بعد تدخلها في سوريا بعد سقوط الأسد، أصبحت “إسرائيل” تسيطر بشكل مباشر، أو تتمتع بإمكانية وصول غير مباشر، على معظم المناطق الغنية بموارد المياه السطحية في القنيطرة وغرب درعا. تشمل منطقة عمليات “إسرائيل” حاليًا مجاري الأودية الرئيسية في القنيطرة، بالإضافة إلى أكثر من اثني عشر سدًّا في القنيطرة ودرعا.

الأمن المائي: بعد تدخلها في سوريا بعد سقوط الأسد، أصبحت “إسرائيل” تسيطر بشكل مباشر، أو تتمتع بإمكانية وصول غير مباشر، إلى معظم المناطق الغنية بموارد المياه السطحية في القنيطرة وغرب درعا. تشمل منطقة عمليات “إسرائيل” حاليًا مجاري الأودية الرئيسية في القنيطرة، بالإضافة إلى أكثر من اثني عشر سدًّا في القنيطرة ودرعا.

القوة الناعمة: تنظر “إسرائيل” إلى التواصل المجتمعي في الجنوب كوسيلة لتكملة سيطرتها الأمنية على المنطقة، ولتسهيل التطبيع الشامل. وقد ركزت معظم هذه الجهود حتى الآن على القنيطرة، التي نُزعت منها الأسلحة إلى حد كبير خلال الأشهر القليلة الماضية.

«أربع مناطق عمليات»

في حين يُمكن اعتبار الشريط الحدودي في القنيطرة والمحافظات الجنوبية منطقةً مُركّزة للوجود الإسرائيلي، فقد أصبحت مناطق في جميع أنحاء سوريا جزءًا من مسرح عملياتي نشط يُسهم في تحديد المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في جميع أنحاء البلاد. في الواقع، يُمكن تقسيم الوجود البري الإسرائيلي وانخراطه الأوسع في سوريا منذ سقوط الأسد إلى أربع مناطق، لكل منها ظروفها ودوافعها العسكرية والأمنية الخاصة:

1 منطقة الانتشار النشط.
2 منطقة التوغلات.
3 منطقة الأمن الجوي.
4 منطقة النفوذ الاستراتيجي.

«منطقة الانتشار النشط»

تمتد منطقة الانتشار النشط الإسرائيلية إلى حد كبير على طول حدود الشريط الحدودي المنزوع السلاح سابقًا في القنيطرة، بدءًا من الحدود السورية اللبنانية شمالًا وصولًا إلى حوض اليرموك جنوبًا. وباعتبارها موطئ قدم داخل الأراضي السورية (على عكس الأراضي السورية المحتلة في مرتفعات الجولان)، تُعدّ هذه المنطقة بمثابة موقع متقدم لشنّ التوغلات والعمليات العسكرية واسعة النطاق.

لتأمين هذه المنطقة، نفذت القوات الإسرائيلية عمليات تمشيط ونزع سلاح شاملة في المدن والبلدات والقرى على طول الشريط الحدودي. ومن المتوقع أن توسّع القوات الإسرائيلية هذه المنطقة لتشمل (تحتل) كامل محافظة القنيطرة (وأجزاء من ريف دمشق وغرب درعا) خلال الفترة المقبلة، وهو ما يُعدّ انتهاكًا صارخًا آخر للسيادة السورية والقانون الدولي.

«القوة الناعمة والتواصل المجتمعي»

تُعتبر منطقة الانتشار الإسرائيلية منطقة آمنة نسبيًا لتحركات القوات، وبيئة مناسبة لتدخلات القوة الناعمة الهادفة إلى بناء علاقات بين القوات الإسرائيلية والسكان المحليين في الجنوب. في الأشهر الأخيرة، كان التواصل المجتمعي أحد المحاور الرئيسية للوجود الإسرائيلي في المنطقة.

كجزء من جهود التواصل هذه، سلمت القوات الإسرائيلية خمس شحنات من سلال الإغاثة (تحتوي على مواد غذائية وإمدادات طبية) إلى مناطق أبو تينة، والعشة، والبريقة، والرفيد، وصيدا الجولان بين 10 مارس و12 أيار. وفي المجمل، سجلت وثائق إيتانا 10 عمليات إيصال مساعدات نفذتها القوات الإسرائيلية منذ أواخر العام الماضي. في البداية، قوبلت جهود الإغاثة الإسرائيلية بمقاومة من المجتمعات المحلية، حيث وردت عدة تقارير في ذلك الوقت عن رفض أفراد من المجتمع المحلي لسلال الإغاثة أو إتلافها. إلا أن السكان المحليين أصبحوا لاحقًا أكثر تفاعلًا مع مساعدات الإغاثة التي تقدمها “إسرائيل”. ويمكن تفسير ذلك بالوضع الاقتصادي السيئ الذي عانت منه القنيطرة تاريخياً في ظل حكم الأسد، فضلاً عن عدم الاستقرار الاقتصادي بعد سقوطه.

«منطقة التوغلات»

وفقًا لتوثيق وكالة إيتانا للأنشطة الإسرائيلية منذ سقوط الأسد، نفذت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 130 توغلًا بريًا منذ أواخر العام الماضي. ومع ذلك، عند إضافتها إلى أنواع أخرى من العمليات – مثل إغلاق الطرق (76)، وتدمير المعدات العسكرية (13)، وإنشاء مواقع عسكرية (12)، وحملات الاعتقال (11) – فإن العدد الإجمالي للانتهاكات البرية الإسرائيلية على الأراضي السورية يتجاوز 200.

تغطي منطقة التوغلات الإسرائيلية حوالي 600 كيلومتر مربع من الأراضي. شمالًا، تغطي منطقة التوغل أيضًا قرى درزية مجاورة للحدود السورية اللبنانية في محافظة ريف دمشق. في الواقع، تشمل هذه المنطقة جزءًا كبيرًا من حوض اليرموك جنوب غرب درعا، وما تبقى من محافظة القنيطرة الخاضعة للسيطرة السورية، وعشرات الكيلومترات المربعة من الأراضي في جنوب غرب ريف دمشق.

أحد الاستنتاجات المستخلصة من هذه الخريطة الأولية هو أن “إسرائيل” استهدفت جميع موارد المياه الرئيسية التي تغذي نهر الأردن، من مدينة القصير التي تقع مباشرة فوق سد الوحدة على الحدود السورية الأردنية إلى البحيرات والخزانات المختلفة المنتشرة في غرب درعا ووسط القنيطرة. وتماشياً مع هذا الهدف الاستراتيجي، استهدفت “إسرائيل” جميع المواقع العسكرية داخل منطقة التوغلات. ولتعزيز هذا الوضع الراهن، نفذت الوحدات الإسرائيلية عشرات المداهمات والتقدم في القرى الحدودية بهدف نزع سلاح السكان المحليين واعتقال الأعضاء المحتملين أو السابقين في الجماعات المتهمة بالانتماء إلى حزب الله اللبناني في الجنوب. وحتى الآن، قامت إسرائيل بنزع سلاح السكان في منطقة الانتشار، وحظرت رعي الماشية وحظرت بشكل شبه كامل أي اقتراب من الحدود الإسرائيلية.

«منطقة النفوذ الجوي»

تشير العمليات الإسرائيلية السابقة لاستهداف الأصول الإيرانية وحزب الله والنظام في سوريا قبل ديسمبر/كانون الأول 2024، ولتدمير جميع وحدات ومعسكرات ومواقع الجيش السوري بعد ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى أن منطقة النفوذ الجوي الإسرائيلي تغطي فعليًا كامل الأراضي السورية. وقد استهدفت الغارات الجوية بعد سقوط النظام مواقع عسكرية من اللاذقية وطرطوس على الساحل إلى حلب ودمشق ودرعا وجميع أنحاء البلاد تقريبًا. ومع ذلك، وفيما يتعلق بجنوب سوريا تحديدًا، تمتد منطقة النفوذ الجوي الإسرائيلي حتى دمشق وشرق السويداء. وتغطي هذه المنطقة أيضًا كامل الشريط الحدودي السوري اللبناني، مما يعني أنها تخدم غرضين: فرض نزع السلاح الإسرائيلي من جميع الأراضي جنوب دمشق، ومنع تهريب الأسلحة من سوريا إلى حزب الله اللبناني.

“غـارة إســرائيلية تـستهدف مبنى الأركان في ساحة الأمويين وسط مدينة دمشق ــ 16 تموز 2025”

بدأت إسرائيل بفرض مراقبة جوية مكثفة على جنوب سوريا بعد منتصف مارس/آذار 2025 باستخدام طائرات مسيرة، وذلك عقب حملات “تل أبيب” المكثفة لتدمير جميع وحدات ومعسكرات ومواقع الجيش السوري فور سقوط النظام. ووجّه “نتنياهو” ووزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” تحذيرات صريحة للإدارة السورية الجديدة من تشكيل أو نشر وحدات من الجيش الجديد (التابع لوزارة الدفاع المؤقتة) في هذه المحافظات.

ونفذت إسرائيل مرارًا وتكرارًا تهديداتها بفرض نزع السلاح في الجنوب، وهو ما يتقبله المسؤولون والقادة العسكريون الإسرائيليون في تل أبيب. وابتداءً من 11 مارس/آذار، نفّذت القوات الجوية الإسرائيلية أكثر من 40 غارة جوية استهدفت معدات ثقيلة تابعة لوزارة الدفاع، بالإضافة إلى مواقع ومكاتب جهّزتها الوزارة حديثًا، وذلك عقب تشكيل السلطات المؤقتة للفرقة الأربعين الجديدة والمُجدّدة تحت لواء “الفرقة الجنوبية“. ورغم ذلك، حاولت الإدارة الجديدة اختبار جدية تحذيرات إسرائيل مجددًا بفتح معسكر تدريب لأفراد الفرقة الجنوبية. ولكن لم ينجح الأمر: ففي 17 مارس/آذار، نفذت الطائرات الإسرائيلية أكثر من 20 غارة جوية استهدفت مواقع الفرقة الجنوبية، مما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة 20 آخرين.

«منطقة النفوذ الاستراتيجي»

في حين أن الإجراءات الإسرائيلية السابقة في جنوب سوريا كانت، إلى حد ما، خاضعة للمفاوضات – ولا سيما آلية منع الاشتباك الإسرائيلية الروسية التي تم التفاوض عليها بعد بدء التدخل الروسي في سوريا في سبتمبر/أيلول 2015 – فإن جميع الإجراءات الإسرائيلية تقريبًا منذ سقوط النظام نُفذت من جانب واحد. لذلك، رسمت “إسرائيل” حدود نفوذها الاستراتيجي الجديد بالنار، كما تجلى في أبريل/نيسان عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية أهم قاعدتين جويتين في وسط سوريا لإحباط مشروع تركي لإنشاء قواعد جوية مدعومة من تركيا وتركيب منصات دفاع جوي متطورة في هذه المنطقة. وبناءً على ذلك، تبلغ مساحة منطقة النفوذ الاستراتيجي حوالي 53,000 كيلومتر مربع، وتشمل محافظات دمشق الجنوبية وريفها الجنوبي، ودرعا، والقنيطرة، والسويداء، بالإضافة إلى النصف الجنوبي من محافظة حمص.

«الوضع الراهن بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية»

تفاقمت نقاط الضعف المستمرة في سوريا عندما شنت “إسرائيل”، في منتصف يونيو/حزيران، موجة من الهجمات الجوية استهدفت منشآت نووية إيرانية، وقادة وعلماء عسكريين ومن “الحرس الثوري الإيراني“، وبنى تحتية رئيسية أخرى في أنحاء إيران. وجدت سوريا نفسها حرفيًا في خضم الأعمال العدائية. ردت إيران بوابل من الصواريخ الباليستية عالية السرعة والطائرات المسيرة. استخدم الجانبان مرارًا وتكرارًا المجال الجوي لجنوب سوريا لشن هجمات عابرة للحدود، في حين كانت السلطات المؤقتة عاجزة فعليًا عن التدخل وحريصة على الحد من خطر امتداد الأعمال العدائية.

في الوقت الحالي، هدأت التوترات بين تل أبيب وطهران، لكن سوريا لا تزال معرضة للخطر طالما أن “إسرائيل” تعتبر عدم استقرارها تهديدًا لأمنها القومي. ويشمل ذلك خطر وجود جماعات من بقايا النظام تعمل بمساحة محدودة في جنوب غرب سوريا. لا تُشكّل هذه الجماعات تهديدًا كبيرًا، لكنها قد تُفاقم زعزعة استقرار الوضع الأمني ​​الهش أصلًا بشن هجمات صاروخية متفرقة وصغيرة النطاق باتجاه الجولان. ومن شأن حوادث كهذه أن تُقوّض الثقة الضئيلة القائمة بين إسرائيل وحكومة دمشق الجديدة، وقد تُعيد في الجنوب الغربي فرض قواعد الاشتباك الإسرائيلية التي كانت قائمةً إبان حكم الأسد: معاقبة السلطات في دمشق على فشلها في وقف الهجمات العابرة للحدود من الجنوب الغربي.

بينما تُحافظ القوات الإسرائيلية على وجود عسكري ثابت في شريط القنيطرة الحدودي، توسّعت هذه المنطقة وسط الأعمال العدائية الإيرانية الإسرائيلية لتشمل بلدات في ريف دمشق الغربي، وتمتد أيضًا على طول الطريق السريع بين دمشق والقنيطرة. تكتسب هذه المنطقة الموسعة أهميتها لقربها من دمشق – إذ تبعد بيت جن 35 كيلومترًا فقط عن مشارف العاصمة – فضلًا عن تنوعها الطائفي، حيث تقع عدة قرى مسيحية ودرزية عند سفوح جبل الشيخ بين الحدود السورية اللبنانية وجنوب غرب دمشق. وبالتالي، أصبحت منطقة عمليات التوغل الإسرائيلية تشمل فعليًا كامل محافظة القنيطرة وحوض اليرموك جنوب غرب درعا.

«الوضع الراهن بعد التصعيد في السويداء»

منذ توليه السلطة وتوطيدها في أعقاب انهيار نظام الأسد، سعى الرئيس المؤقت الشرع إلى نزع سلاح الفصائل الدرزية في السويداء ودمجها في وزارة الدفاع المؤقتة – وهو الهدف نفسه الذي طُبق على “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية) في شمال شرق سوريا، ومجموعات أحمد العودة في شرق درعا، وغيرها من الفصائل المسلحة غير التابعة في جميع أنحاء البلاد، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة من التفاوض والقوة. ومع ذلك، فقد أثبتت السويداء أنها مشكلة أكثر صعوبة بالنسبة للشرع والسلطات المؤقتة، لا سيما بسبب تدخل “إسرائيل” و”حمايتها” المزعومة للأقلية الدرزية في سوريا. ويهدف هذا الهدف المعلن إلى أمرين: إيصال رسالة داخلية إلى الأقلية الدرزية المؤثرة في “إسرائيل”، مفادها أن “إسرائيل” حامية للدروز، وفرض حماية حدودها الوطنية غير المعلنة وأمنها القومي تجاه المنطقة.

«دور إسرائيل في أحداث عنف جرمانا وأشرفية صحنايا، نيسان – أيار 2025»

اختبرت السلطات المؤقتة في البداية شجاعة “إسرائيل” خلال الاشتباكات التي وقعت في جرمانا وأشرفية صحنايا في أبريل/نيسان. في 27 أبريل/نيسان، سُرّب على الإنترنت تسجيل صوتي زُعم أنه يُصوّر رجل دين درزيًا يُسيء إلى النبي محمد (ص)، مما أثار غضبًا واسع النطاق ودعوات للانتقام من بعض شرائح “المجتمع السني”. اندلعت احتجاجات عنيفة ضد التسجيل و”استهداف الطلاب الدروز” في البداية في حرم الجامعات قبل أن تمتد إلى ما يصل إلى 70 موقعًا في جميع أنحاء البلاد. في 28 أبريل/نيسان، هاجمت جماعات مسلحة محلية ووحدات من الأمن العام منطقتين درزيتين حول دمشق، هما جرمانا وأشرفية صحنايا، مما أسفر عن مقتل العشرات من الجانبين في الاشتباكات التي تلت ذلك.

          “هدوء حذر” في جرمانا بعد أكثر من عشرة قتلى خلال اشتباكات عنيفة

في هذه المرحلة، رسمت “إسرائيل” خطًا أحمر آخر يتجاوز نزع السلاح من الجنوب. وتعهد بيان مشترك من نتنياهو ووزير الدفاع “إسرائيل” كاتس بوقف الهجمات ضد الجماعات أو المجتمعات الدرزية، وكذلك السويداء نفسها: وادعى المسؤولان أن الضربات الإسرائيلية اللاحقة في صحنايا كانت “رسالة خطيرة” مفادها أن “إسرائيل تتوقع منها أن تتحرك لمنع إلحاق الأذى بالدروز”. وقد أدى هذا إلى مزيد من التحريض ضد الدروز من قبل السلطات المؤقتة، حيث لجأ الشرع بشكل متزايد إلى استخدام لغة ضد الدروز كشريحة متمردة في المجتمع السوري أو، في أسوأ الأحوال، انفصاليين يعملون ضد مصالح الدولة الجديدة بعد الأسد. وبينما بدا أن الضربات الإسرائيلية في أشرفية صحنايا قد صدت طموحات السلطات المؤقتة في السويداء، إلا أن هذا النوع من الخطاب القومي شديد الطائفية عاد في تموز عندما حاولت السلطات المؤقتة مرة أخرى التحرك نحو المحافظة ذات الأغلبية الدرزية.

«دور إسرائيل في أعمال العنف التي اجتاحت السويداء/تموز 2025»

بالمقارنة مع أعمال العنف قرب دمشق، كان رد “إسرائيل” على الهجمات الأخيرة الموالية للحكومة على السويداء أقل إلحاحًا. فبعد اندلاع الاشتباكات بين الجماعات البدوية والفصائل الدرزية في منتصف يوليو/تموز، نشرت وزارة الدفاع المؤقتة أكثر من 12 ألف جندي لتعزيز صفوفها لانتزاع تنازلات من الدروز. وبعد مراقبة التطورات بحذر لمدة 24 ساعة، شنت إسرائيل موجة من الغارات الجوية ضد القوات الموالية للحكومة التي كانت تتقدم نحو شمال وغرب السويداء، مما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 300 مقاتل من وزارة الدفاع والأمن العام والجماعات المسلحة التابعة لها، حسبما ورد. وضربت الغارات الجوية اللاحقة عدة مواقع في وسط دمشق، بما في ذلك مبنى وزارة الدفاع، بالإضافة إلى قصر الشعب نفسه – وكلاهما هدفان كانا بمثابة تحذيرات قوية للشرع والسلطات المؤقتة المتبقية للتخلي عن السلطة.

ومع ذلك، بعد هجوم الموجة الثانية بين 17 و18 يوليو/تموز، بقيادة جماعات بدوية عشائرية مدعومة من السلطات المؤقتة، بدأت إسرائيل تُبدي بعض المرونة، فأرسلت في البداية رسالةً مفادها أنها ستسمح لوحدات الأمن العام بدخول مدينة السويداء لفترة محدودة (كجزء من اتفاق وقف إطلاق نار أولي لم يصمد)، ثم وافقت على اتفاق وقف إطلاق نار ثلاثي الأطراف في 20 يوليو/تموز (بوساطة بين سوريا والأردن والولايات المتحدة)، والذي لا يزال صامدًا بشكل هش. ويُرجّح أن هذا كان نتيجة ضغط من الإدارة الأمريكية لتهدئة القتال في الجنوب، وليس تراجعًا من “إسرائيل” عن موقفها المعلن سابقًا بـ”حماية” الدروز” في السويداء.

إسرائيل

رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، في جولة ميدانية بجنوب سوريا  برفقة قادة عسكريين بارزين بينهم قائد المنطقة الشمالية أوري غوردين، وقائد الفرقة 210 يائير بالاي. 2025.04.21 (الصورة وكالات)

من نواحٍ عديدة، وقع الضرر بالفعل. فرغم صمود وقف إطلاق النار الثلاثي في ​​معظمه رغم بؤر القتال الساخنة على محاور رئيسية شمال محافظة السويداء، إلا أن الخطاب السوري بين الدولة المركزية والدروز، هش، إن لم يكن قد انكسر بالفعل. وبالنظر إلى المستقبل، فإن اللغة المستخدمة الآن تكاد تضمن المزيد من العنف في المستقبل، وهذا مثال آخر على توسع الوجود الإسرائيلي المزعزع للاستقرار في جنوب سوريا. في غضون ذلك، شهد اجتماع ثلاثي بين مسؤولين سوريين وأردنيين وأمريكيين في 12 أغسطس/آب في عمان تشكيل مجموعة عمل للإشراف على وقف إطلاق النار. ومع ذلك، يبدو أن السلطات المؤقتة تنظر إلى وقف إطلاق النار الحالي على أنه وقف تكتيكي، وعلى الرغم من الحصار شبه الكامل الذي فرضته السلطات حول السويداء اعتبارًا من منتصف أغسطس/آب، فمن المرجح أن تستأنف هجمات أكثر خطورة على السويداء بمجرد أن يحدد الشرع خطته التالية، وأن يحقق وقف إطلاق النار غرضه على المدى القصير والمتوسط.

«تقييم»

على الرغم من ادعاءات “إسرائيل” الأولية بأن وجودها في سوريا بعد الأسد سيكون “مؤقتًا”، تشير الدلائل إلى احتلال متزايد بلا منازع وتمركز للقوات الإسرائيلية على الأراضي السورية. وبينما تخدم عمليات القصف الجوي والبري المتكررة والممنهجة التي تقوم بها “تل أبيب” هدف “إسرائيل” المعلن المتمثل في نزع السلاح من مناطق جنوب سوريا المجاورة للجولان المحتل، فإن أنشطتها في المنطقة، مجتمعةً، استراتيجية للغاية، مما يمنحها فعليًا دورًا حاسمًا – ومزعزعًا للاستقرار – في مرحلة ما بعد الأسد في سوريا.

إسرائيل


 

 

قد يعحبك أيضاً

دع تعليقاً

ياستخدامك لهذا النموذج أنت توافق على حفظ بيناتك في هذا الموقع

هذا الموقع يستخدم ما يسمى الكوكيز لتأمين أفضل خدمة لكم في زيارتكم لموقعنا، معظم المواقع الكبرى تستخدخ هذه التقنية موافق قراءة المزيد

Privacy & Cookies Policy