نوازغ البغدادي

by admindiaa

 

سعد الشارع*

تمرُّ معظم الجماعات الجهادية بمرحلة مراجعات فكرية، كانت لزاماً عليهم بعد موجةٍ شديدة عصفت ببناها التنظيمية وأصابت في مقتلٍ حلقات التواصل مع خلاياها وشبكاتها الخارجية، وهي ذات المرحلة التي يحاول بها تنظيم “داعش” إعادة هيكلة بنيته الإدارية والتنظيمية، وأولى رسائله المباشرة من توقيت التسجيل هي محاولته دحض ادعاء الإدارة الأمريكية القضاء على تنظيم “داعش”، وقبل الوقوف على معالم التسجيل الذي بثته مؤسسة الفرقان بعنوان “في ضيافة أمير المؤمنين” ينغي الإحاطة ببعض النقاط الوصفية لواقع التنظيم الحالي:
أولاً: فقد التنظيم العدد الأكبر من قيادات الصفين الأول والثاني، ومنهم -وهم الأهم- القيادات التقليدية التي عايشت ولادة الدولة في العراق سابقاً، والتي تتحكم بنفوذ ومجموعات أقرب للمستقلة في تكوين التنظيم، ولم تتمكن القيادات الصاعدة من ترميم هذا النقص لأسباب موضوعية تتعلق بالعمر الجهادي والتواصل الخارجي، عوضاً عن التأثير الداخلي الذي يُوصف (بالمدبر) أي القيادي الذي يتمكن من تدبير أمور قطاعه والنهوض به دون الطلب من المركزية.
ثانياً: الانكسار الكبير الذي تعرض له التنظيم بفقده للحواضر المدنية في سوريا والعراق، رغم كل سلبياته الكارثية على التنظيم إلا أنه قدم شيء إيجابي له وهو منع إعلان الانشقاق الذي كان واضحاً في اصطفاف مبني على دوافع شرعية، أدت إلى انقسام بين تيارين الأول تزعمه المسؤول الشرعي السابق ذو الجنسية البحرينية “تركي البنعلي” الملقب “ابي همام الأثري” الذي أعلن التنظيم مقتله في 31 أيّار/ مايو 2017، وهو ذاته صاحب كتاب “مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي”، والتيار الثاني المعروف بالحازميون، نسبة إلى “أحمد بن عمر الحازمي” المعتقل في السجون السعودية، وكانت جلّ خلافات هذين التيارين قائمة على جدلية التكفير المتسلسل والعذر بالجهل، ولم يخفي الحازميون اعتبار تيار البنعلي كفاراً بناءً على قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافر، وتصاعدت حدة الندية بين التيارين حتى وصلت للصدام المسلح في بعض الأماكن كما حصل في الرقة السورية في بداية عام 2017، ومع افول التنظيم تدريجياً ظهر تيار ثالث أقرب لتوصيف (الصحوة الداخلية) من بعض الشخصيات القيادية يتزعمهم “أبو محمد الهاشمي” دعت إلى نقض البيعة وقتل البغدادي، وأصدر الأخير كتاباً بعنوان “كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي”، ما أريد أن أقوله هنا، إن ضياع جغرافية التنظيم حرمت التيار الأخير (الثالث) من إعلان الانشقاق، على مبدأ لا شيء متبقي مأسوف عليه.
ثالثاً: قد يختلف معي الكثير في الصعوبات التي تواجه التنظيم حالياً، لكن أعتقد إن أهم إشكالية يعاني منها هي تعريف التنظيم ولتقريب ذلك يمكن تشبيهها بـ (من نحن) التي نجدها في كل موقع إلكتروني، فهو يدفع الآن ضريبة عداوته لباقي الجماعات الجهادية سابقاً، ولا أعتقد إن البغدادي ومن معه تمكنوا حالياً من حلّ هذه المعضلة، فالتنظيم لم يعد كياناً محافظاً على أدنى مقومات (الدولة المزعومة)، ولا يملك القوة التي يمكن توظيفها لإجراء تأثير فاعل في الملفات الساخنة (سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، …) وهذا لا يعني انعدام التأثير، أي يمكن تشغيله لكن دون مستوى شوكة التوظيف المستدامة، وهذه بعض النقاط التي أعتقد إنها الأهم في التسجيل:
1- بدأ حديثه عن انتهاء معركة “الباغوز” وهي آخر مواجهة فعلية للتنظيم، وتعني انتهاء التنظيم جغرافياً والرجوع إلى نمطية الجماعة، المنحازة إلى مواطن ترعرعت بها سابقاً (الصحراء) ومحدودية النشاط.
2- الصورة الإعلامية التي ظهر بها البغدادي (الجلوس على الأرض، وضع السلاح على جنبه، شمولية الحديث) تذكر المشاهد بلقاءات قيادات تنظيم القاعدة وحركة طالبان، وأعتقد إن مسعى البغدادي حالياً هو زجّ نفسه في هذه المنظومة، والدخول في الفضاء الجهادي التقليدي.
3- يبدو واضحاً إن البغدادي مغيب عن الكثير من الحوادث وتفصيلها في تنظيمها، فقد أخطأ في موضوعين مهمين، حيث ذكر إن “أبو الوليد السيناوي” الذي قتل في معركة الباغوز، كان أميراً على المنطقة، والحقيقة إن المذكور لم يكن كذلك بل مكلف من اللجنة المفوضة بالإدارة العسكرية وهذا المنصب يختلف عن منصبي الأمير والمسؤول العسكري، كما إن أبو طارق العراقي لم يقتل في هذه المنطقة بل في موطن آخر بحسب بعض الانباء الواردة آنذاك.
4- إعلانه إن (الغزوة الموحدة) في الولايات قد أدت إلى 92 عملية في 8 دول هو مؤشر فعلي لانتقال التنظيم لحرب العصابات، وانتفاء الحرب المفتوحة، وأتبعها بمقولة (معركة استنزاف ومطاولة) ويستخدم هذا التعبير في ذات التوصيف، في كلامٍ توكيدي لإعلانه.
5- لم يقلل البغدادي كعادته من شأن (عامة المسلمين) الذين قتل منهم المئات فقط منذ بدء معركة “هجين” شرق دير الزور، بل زاد من عنجهية كلامه في وصف المتظاهرين في الجزائر والسوداء بأنهم لم يفقهوا حال الأمر بخلع طاغية مكان طاغية على حد وصفه، بل كان جلّ حديثه يسوق فيه بطولات قيادات وعناصر التنظيم، دون الاكتراث للبشر والحجر، وهذه مغايرة تماماً لمنطق الجماعات الجهادية الأخرى التي دائماً تستند في خطابها الإعلامي على الإيثار وبذل المهج لعامة المسلمين وحمايتهم.
6- تركيزه أكثر من مرة على “جزيرة محمد” ويقصد بها الجزيرة العربية، لسببين، الأول إن الأصوات التي كانت ترفض عرقنة (الجنسية العراقية) قيادات الصف الأول، كانت في معظمها من دول الجزيرة العربية، فهذه رسائل طمأنه، أما السبب الثاني، فيتعلق بالوضع الداخلي في هذه الدول وتحديداً العربية السعودية المهيأ لنشاط التنظيم خاصة بعد عملية (الزلفي) الفاشلة في نيسان/ ابريل 2019، والتي ذكرها البغدادي في تسجيله.
7- مباركته لبيعة ما أسماهم الإخوة في “مالي” و “بوركينا فاسو” هو دعوة صريحة للمجموعات الجهادية المتناثرة في القارة الإفريقية، حيث هناك نهم وضاج للجماعات الجهادية بكسب جماعات هذه القارة، لقوة تأثير عملياتها، وقلة تكاليفها المالية.
8- رغم تصاعد المؤشرات التي تستشرف زيادة عمليات التنظيم في تركيا والسعودية، إلا إن ضهور اسم (ولاية تركيا) على إحدى الكراسات لا يُعطي قوةً لهذه المؤشرات، وأعتقد إن هذه النقطة هي الأهم مرحلياً، فالبحث عن مشغل التنظيم في تلك الدولتين (تركيا، السعودية) ليس بعيداً عن دائرة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وغياب إيران عن حديثه وكراساته، مع تأزم الوضع في المنطقة، يجعل الشكوك أكثر واقعية في احتمالية أن تستفيد “طهران” من عروضه، خاصة إن هناك قيادي جدلي لم يظهر اسمه منذ أكثر من عامين “أبو صفاء” العراقي المتهم بعلاقته مع إيران.
9- يظهر جلياً الأثر السلبي على البغدادي لفقده الدائرة المحيطة، التي كانت فعلياً هي المحركة للتنظيم والفاعلة في شؤونها، وعلى الصعيد الشخصي فهي التي توجه البغدادي وتحركه في الكثير من الأحيان، فغياب أبو علي الأنباري والدكتور هاني الراوي، حجي بكر، أبو مسلم التركماني، شاكر أبو وهيب، أبو محمد العدناني، أبو عبد الرحمن البيلاوي، أبو سعدون السويداوي، أبو عمر السوري، أبو علي قرداش، وغيرهم، جعلت من البغدادي وحيداً، وأكدت بعض المصادر أنه بات عصبي المزاج قليل الحديث حتى من مجموعة حمايته، وهذه الظرفية تشابه إلى حدٍ معين وضع الملك المريض الذي يتوقع من أحد مساعديه تسديد طلقة الرحمة على رأسه، للاستحواذ على التركة.

كاتب وباحث سياسي*

قد يعحبك أيضاً

دع تعليقاً

ياستخدامك لهذا النموذج أنت توافق على حفظ بيناتك في هذا الموقع

هذا الموقع يستخدم ما يسمى الكوكيز لتأمين أفضل خدمة لكم في زيارتكم لموقعنا، معظم المواقع الكبرى تستخدخ هذه التقنية موافق قراءة المزيد

Privacy & Cookies Policy