ملك العراق: القانون والسلطة وهيمنة لا تُسأل

by admindiaa


فرات بوست:
 أخبار | تقارير

في أواخر حزيران/يونيو 2024، أثار منشور مقتضب لنائب أميركي اتهم فيه القضاء العراقي بخدمة مصالح خارجية ردود فعل واسعة داخل البلاد. سارعت وزارة الخارجية وقوى سياسية بارزة إلى الدفاع عن رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، واعتبرت التصريحات تدخلاً غير مقبول في سيادة العراق ونظامه الدستوري.

كشفت حدة الردود عن حقيقة باتت معروفة في بغداد منذ سنوات: زيدان ليس مجرد مسؤول قضائي رفيع، بل ركيزة أساسية في بنية النظام السياسي، وشخصية يصعب—إن لم يكن مستحيلاً—مواجهتها.

بصفته رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، يشرف زيدان على المؤسسة التي تفصل في النزاعات بين السلطات، وتُصدّق على نتائج الانتخابات، وتبت في أهلية المرشحين، وتفسّر حدود الدستور. وعملياً، يضع ذلك السلطة القضائية فوق تقلبات البرلمان والحكومة. تتغير الحكومات، وتتبدل التحالفات، وتُعاد الانتخابات، بينما يبقى القضاء ثابتاً.

اليوم، لا تمر أي عملية سياسية كبرى دون مراجعة قضائية. يمكن استبعاد مرشحين، وتعليق تعيينات، وإقالة محافظين، ونقض قرارات برلمانية عبر أحكام قضائية. يرى مؤيدو هذا الدور أنه ضروري لمنع الفوضى في نظام كثيراً ما تختبر فيه القوى السياسية حدود القانون، بينما يرى منتقدون أنه أفرغ المنافسة الانتخابية من مضمونها. إلا أن الطرفين يتفقان على مدى نفوذ القضاء.

يتميّز موقع زيدان بجمعه بين الديمومة والحسم القانوني. فعلى عكس رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان، لا يعتمد موقعه على التوازنات أو الأصوات. تستمد سلطته من النص الدستوري واستمرارية المؤسسة، ما يجعلها بمنأى عن الضغوط السياسية المباشرة.

ولا يقتصر نفوذ القضاء على السياسة وحدها. ففي القضايا المالية والمصرفية وقطاع الطاقة، كثيراً ما تتجاوز الأحكام القضائية اعتراضات المؤسسات الفنية. ويقر مسؤولون كبار، في مجالس خاصة، بأن صدور حكم قضائي يعني عملياً نهاية أي مجال للمناورة. فالامتثال ليس خياراً، بل أمراً فورياً.

داخل مؤسسات الدولة، أفرز ذلك واقعاً صامتاً: ينتظر كبار الموظفين الإشارات القضائية قبل اتخاذ قرارات مصيرية، ليس بدافع الخوف التقليدي، بل لأن العواقب القانونية لأي مخالفة تكون سريعة وحاسمة.
ويصف من التقوا زيدان رجلاً مدركاً تماماً لرمزية السلطة والتراتبية. يُولي البروتوكول أهمية بالغة، وشخصيته العلنية متحفظة، لكن ثقته في صلاحيات موقعه واضحة. وفي أحاديث غير رسمية، شدد على أن لا مؤسسة تعمل خارج نطاق الرقابة القضائية، معتبراً ذلك جوهر النظام الدستوري.

داخل الطبقة السياسية، يُشار إليه أحياناً—بنبرة تجمع بين الجدية والاستسلام—بلقب «ملك العراق». وهو توصيف لا يُقصد به الإدانة بقدر ما يعكس واقعاً قائماً: ففي نظام تتوزع فيه السلطة في كل مكان آخر، تبقى السلطة القضائية موحّدة.

يبقى الجدل قائماً حول ما إذا كان هذا التركيز في النفوذ يمثل استقراراً أم ركوداً. لكن ما لا خلاف عليه هو أن النظام العراقي اليوم يدور حول شخصية ذات موقع راسخ قانونياً، وغير قابل للطعن سياسياً، وصعب الاستبدال عملياً. في عراق اليوم، لا تكمن السلطة الحاسمة لدى من يحكمون، بل لدى من يقررون ما إذا كان الحكم يمكن أن يمضي قدماً أم لا.

قد يعحبك أيضاً

دع تعليقاً

ياستخدامك لهذا النموذج أنت توافق على حفظ بيناتك في هذا الموقع

هذا الموقع يستخدم ما يسمى الكوكيز لتأمين أفضل خدمة لكم في زيارتكم لموقعنا، معظم المواقع الكبرى تستخدخ هذه التقنية موافق قراءة المزيد

Privacy & Cookies Policy