*فرات بوست: تقارير ومتابعات/ رأي
هناك تطوران حديثان يقدمان للحكومة السورية الجديدة فرصة حاسمة لتحقيق الاستقرار في البلاد. أولاً، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال زيارته للسعودية، عن خطط لرفع العقوبات عن سوريا، مما يفتح الباب أمام الاستثمار الذي تشتد الحاجة إليه لإعادة الإعمار. ثانياً، أعلن حزب العمال الكردستاني أنه سيحل نفسه، مما يضع حداً لتمرده المستمر منذ أربعة عقود. وستساعد الخطوة التي اتخذها حزب العمال الكردستاني دمشق على وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق مع “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية)، وهي تحالف عسكري تقوده مجموعة تعتبرها تركيا فرعاً سورياً لحزب العمال الكردستاني، ودمجها في الجيش السوري الجديد. يجب على الرئيس ترامب البناء على هذا الزخم والاندفاع واغتنام الفرصة لمعالجة أحد التحديات المتبقية الأكثر تعقيداً التي تواجه سوريا: خطر المواجهة العسكرية بين تركيا وإسرائيل داخل البلاد.
منذ انهيار نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، صعّدت “إسرائيل” بشكل كبير من نشاطها العسكري في سوريا – حيث استولت على المنطقة العازلة التي تراقبها الأمم المتحدة، وشنت ضربات ممنهجة على الدفاعات الجوية والبنية التحتية العسكرية، وأقامت مواقع استيطانية جديدة. ويتمثل أحد المحاور الرئيسية للعمليات الإسرائيلية في الدور المتنامي لتركيا في سوريا. وينظر المسؤولون الإسرائيليون بشكل متزايد إلى وجود أنقرة على أنه تهديد أكبر من إيران، وقد استهدفوا القواعد الجوية التي كانت تركيا تهدف إلى السيطرة عليها. لكن الرواية التي تصور تركيا على أنها تهديد أيديولوجي وعسكري لإسرائيل تسيء فهم نوايا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فبدلاً من السعي إلى المواجهة، يرى أردوغان أن سوريا ما بعد الأسد فرصة استراتيجية لحل التحديات الداخلية والإقليمية العميقة. ولن يؤدي تصعيد التوترات مع إسرائيل إلا إلى تقويض هذه الطموحات.
«سوريا ما بعد الأسد فرصة أردوغان لإعادة ترتيب أوراقه داخلياً وخارجياً»
تُتيح سوريا ما بعد الأسد لأردوغان فرصة نادرة لمواجهة العديد من التحديات الداخلية قبل ترشحه المتوقع لإعادة انتخابه عام 2028. يتراجع دعم الرئيس التركي داخلياً، ومن أبرز تحدياته السياسية وجود ملايين اللاجئين السوريين، مما أجج المشاعر القومية وساهم في هزيمة حزبه في الانتخابات البلدية عام 2019. مع رحيل الأسد، يأمل أردوغان أن تسمح الظروف قريباً بعودة اللاجئين إلى أوطانهم – وهي خطوة قد تُخفف من حدة مصدر رئيسي للغضب الشعبي.
ولكن عودتهم تعتمد على إعادة بناء سوريا، وهذا يفتح فرصة أخرى. لقد أثر الاقتصاد التركي المتعثر بشكل كبير على قطاع البناء، الذي كان دائماً وسيلة للولاء ومصدراً للدعم السياسي لأردوغان. حلفاؤه في هذا القطاع باتوا يتطلعون الآن إلى عقود إعادة الإعمار المربحة عبر الحدود – ويدعمون ضغط أردوغان من أجل تخفيف العقوبات الغربية وتدفق التمويل الدولي إلى سوريا ما بعد الحرب.
*مواد ذات صلة:
“إسرائيل” تسعى إلى إضعاف سوريا من خلال دعم الدروز
يسعى أردوغان أيضاً للحصول على دعم الأكراد في حملته الانتخابية لعام 2028 – وهي احتمالية قد ساعدها بشدة إعلان حزب العمال الكردستاني في 12 أيار أنه سيحل نفسه ويتخلى عن النزاع المسلح كجزء من مبادرة سلام جديدة مع تركيا. العملية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسوريا والمفاوضات بين قسد والحكومة الجديدة في دمشق أيضاً. وقع الجانبان اتفاقاً في آذار، لكن لا تزال بعض التفاصيل الأساسية بحاجة إلى حل، مثل كيفية دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري. سيعطي إعلان حزب العمال الكردستاني دفعة للمحادثات الجارية حول التنفيذ، مما يعزز استراتيجية أردوغان السياسية المحلية، لكن لا تزال هناك الكثير من العقبات المحتملة على الطريق نحو تسوية دائمة بين السوريين والأكراد.
تمنح سوريا ما بعد الأسد أردوغان فرصةً لحل أحد أصعب تحديات سياسته الخارجية: إصلاح العلاقات مع واشنطن. شهدت العلاقات الأمريكية التركية توتراً حاداً – أولاً بسبب قرار إدارة أوباما عام 2014 بتسليح القوات الكردية السورية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني لمحاربة “تنظيم الدولة” (داعش) في عين العرب/كوباني، ولاحقاً بسبب شراء أردوغان أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية الصنع إس-400، مما أدى إلى فرض عقوبات بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (كاتسا) واستبعاد تركيا من برنامج مقاتلات إف-35. الآن، يرى أردوغان المشهد السوري الجديد فرصةً لإعادة ضبط العلاقات – فرصةً للتوافق مع إدارة ترامب والدفع نحو عودة تركيا إلى مشروع مقاتلات إف-35.
أنقرة تراهن على أنه إذا حافظت الحكومة السورية الجديدة على الاستقرار، وطبقت الاتفاق لدمج قسد (قوات سوريا الديمقراطية) في الجيش السوري، واستمرت بالضغط على تنظيم الدولة/داعش، فإن الرئيس ترامب سوف يسحب القوات الأمريكية من سوريا – مما ينهي الدعم لقوات سوريا الديمقراطية ويزيل مصدر رئيسي للتوتر في العلاقات الأمريكية التركية. كما يراهن أردوغان على أن إعادة ضبط العلاقات الثنائية سيفتح الباب للتعاون الدفاعي الأعمق مع الولايات المتحدة.
«أردوغان بحاجة إلى اتفاق، لا إلى حرب أخرى»
لتحقيق أهدافه في السياسة الداخلية والخارجية، يحتاج أردوغان إلى سوريا مستقرة تحكمها إدارة معتدلة وشاملة قادرة على جذب التمويل الدولي. لكن العواصم الغربية والخليجية لا تزال حذرة من الخلفية الجهادية للرئيس المؤقت أحمد الشرع، وتشك في قدرة أردوغان على لعب دور قوة معتدلة في الحكومة السورية الجديدة. التشكيك في دور تركيا أمر مفهوم. فقد أججت أنقرة مراحل من الصراع السوري بدعمها لبعض الفصائل، واتباعها أجندة أيديولوجية تهدف إلى الهيمنة الإقليمية – وهي سياسة لم تفشل فحسب، بل تركت تركيا معزولة ومثقلة بملايين اللاجئين.

لاجئة سورية في مخيم المبروكة في بلدة راس العين عند الحدود السورية ـ التركية. 23 نيسان 2017. / صورة وكالة فرانس برس / دليل سليمان
هذا الفشل، الذي تفاقم بسبب الضغوط الاقتصادية، أجبر أردوغان على إعادة التفكير. لقد تخلى عن موقفه الإقليمي المعادي للإسلاميين لصالح الدبلوماسية البراغماتية التي تركزت على استعادة العلاقات مع القوى في الشرق الأوسط مثل مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة. بعد سنوات من التوتر، قام أردوغان بتصحيح العلاقات لفتح باب التعاون الاقتصادي وهو يسعى الآن إلى شراكات أعمق. هذا التحول البراغماتي أيضاً يشكل موقف أنقرة في سوريا. تعلم أنقرة أن الحكومة الجديدة في دمشق يجب أن تتجنب الظهور وكأنها تعتمد على تركيا – وهي صورة من شأنها أن تثير القلق في كل من العواصم الإقليمية والغربية. في خطوة رمزية، اختار الرئيس أحمد الشرع الرياض – وليس أنقرة – كأول زيارة له إلى الخارج، مما يبرز الرسالة أن سوريا ما بعد الأسد لن تكون دولة تابعة لتركيا.
ومع ذلك، فإن المسؤولين الإسرائيليين يصورون بشكل متزايد وجود تركيا في سوريا كتهديد عسكري وأيديولوجي، مشيرين إلى الماضي الجهادي للرئيس المؤقت الشرع وصلاته بأردوغان لتبرير استمرار العمليات. ولكن هذا التصوير يسيء فهم التوازن الفعلي للقوى. في الواقع، يعبر المسؤولون الأتراك في الخفاء عن إحباطهم بسبب تأثيرهم المحدود في دمشق، مشيرين إلى أنه على الرغم من جهود أنقرة لتأمين السيطرة على القواعد العسكرية، إلا أن دمشق قد تراجعت. الشرع مدرك تماماً أن تدخل الجيش التركي بشكل كبير قد يعيق جهوده لبناء علاقات إقليمية. وقد أشارت دمشق بوضوح إلى اهتمامها بتجنب المواجهة مع إسرائيل، وقد بذل الشرع جهداً كبيراً لتخفيف المخاوف الإسرائيلية – مقترحاً تطبيع العلاقات، ومنطقة منزوعة السلاح، وحتى السماح لإسرائيل بالحفاظ على وجود أمني بالقرب من مرتفعات الجولان.

“أجرت تركيا وإسرائيل محادثات بشأن إنشاء خط لمنع الصراع في سوريا لتجنب أي سوء تفاهم ومنع الاشتباكات المحتملة بين جيشيهما”.
وبالمثل، أوضح المسؤولون الأتراك أنهم لا يسعون إلى مواجهة مع إسرائيل في سوريا. وبينما تهدف تركيا إلى ترسيخ نفوذها في الجوار، فإنها تعلم أنها لم تعد قادرة على تحمل المغامرة الأيديولوجية التي كانت عليها في الماضي، ولا المخاطرة بصدام عسكري مع إسرائيل قد يُنفّر القوى الخليجية والغربية التي تعتمد عليها في إعادة بناء سوريا وتحقيق الاستقرار في اقتصادها المتعثر. وتُبذل جهود إقليمية بين سوريا وإسرائيل، وبين إسرائيل وتركيا، لإنشاء آليات لفض النزاع وبناء الثقة. لكن هذه المحادثات تحتاج إلى دفعة – والرئيس ترامب هو الزعيم الوحيد الذي يتمتع بنفوذ حقيقي على نتنياهو. يجب عليه استغلال هذا النفوذ ليوضح للمسؤولين الإسرائيليين أن وجود تركيا في سوريا لا يُشكل تهديداً، بل يُمثل رصيداً محتملاً لاستقرار البلاد، واحتواء إيران، ومنع عودة تنظيم الدولة-داعش – وهي نتائج تتوافق جميعها مع المصالح الأمنية لإسرائيل.