حسابات وهميّة تشعل نار التحريض الطائفي في سوريا..فَمَن وراءَها؟

by Anas abdullah


فرات بوست: أخبار | تحقيقات

في زوايا العالم الرقمي السوري، تعجُّ المنصات الاجتماعية بحساباتٍ مجهولةٍ لا تُعرَف وجوهُ أصحابها ولا أصواتُهم، لكنها تنطقُ بالكراهية وتنفثُ سمًّا في وطن مثخنٍ بالأزمات. هذه الحسابات، التي تتخفّى غالبًا خلف أسماءٍ نسائيةٍ وصورٍ جذّابة، تحوّلت إلى أداةٍ خفيةٍ لإذكاء الانقسام الطائفي، وبثّ خطابٍ تحريضيٍّ يهدّد ما تبقّى من نسيج المجتمع السوري المتعب.

لكن ما يثير القلق أكثر هو الانتظام الغامض في نشاط هذه الحسابات، وكأنها تتحرك وفق خطةٍ مركزيةٍ خفيّة تُدار من خلف الشاشات.
ففي كل حدثٍ أمنيٍّ أو توتّرٍ محلي، تتدفقُ فجأةً عشرات الحسابات لتبثَّ رسائلَ متشابهة، بنفس المفردات واللغة التحريضية ذاتها.

في الـ 23 من شهر نوفمبر / تشرين الثاني الفائت، شهدت مدينة حمص توترًا أمنيًا، وذلك عقب جريمة قتل مروّعة طالت إمام مسجد وزوجته في منطقة زيدل قرب حي الزهراء وأوتوستراد الستين. حيث عُثر على الرجل مقتولًا داخل حمّام منزله، وقد تعرّض جسده للتهشيم، بينما أُحرقت جثة زوجته، وظهرت على الجدران عبارات طائفية كتبت بدمه. لاحقًا تبيّن أن القاتل قريب للعائلة، وقد حاول – وفق المعطيات – إخفاء جريمته عبر كتابة تلك العبارات لإضفاء طابع طائفي على الحادثة.

في يوم وقوع الجريمة اندلعت أحداث عنف في المدينة طالت ممتلكات لمواطنين من “الطائفة العلوية” بسبب العبارات الطائفية التي عثر عليها في موقع الجريمة. خلال وقوع هذه الأحداث نشطت الحسابات بشكل كبير ونشرت المئات من الأخبار المظللة مثل ارتكاب مجازر بحق العلويين، بالإضافة إلى منشورات تحريضة ضدهم من حسابات أخرى.
هويّات مزيّفة وملفات مغلقة:
من خلال رصدٍ دقيقٍ لنشاط هذه الحسابات، تبيّن أنّ معظمها على منصة “فيسبوك” يظهر بملفاتٍ شخصيةٍ مغلقةٍ بالكامل، لا تحتوي سوى على صورةٍ واحدةٍ وغالبًا بلا أي معلوماتٍ حقيقية ولا تستطيع معرفة تاريخ إنشاء هذه الحسابات بسبب خاصية “إغلاق الملف الشخصي” في فيس بوك. ويركز هذا النوع من الحسابات على نشر تعليقات طائفية في منشورات الآخرين دون النشر في صفحاتهم.

أما الحسابات التي تنشط في النشر فهي حسابات نجد أنها تم إنشائها حديثاً أي خلال العام الجاري، تتّسم هذه الحسابات بقدرتها على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تركيب الصور والفيديوهات، ما يمنح منشوراتها طابعًا واقعيًا يخدع المتابع العادي ويؤجّج التفاعل الجماهيري.

التحليل الميداني لمحتوى هذه الحسابات يُظهر نمطًا متكرّرًا حيث أن أغلب هذه الحسابات لا تتبنى رأياً سياسياً واضحاً أو موقفاً واحداً، بل أراء مختلفة كل رأياً منها يهم طائفة أو عرقاً في سوريا، وتنشر هذه الحسابات خطابات طائفية وإساءة لمختلف المكونات والطوائف في سوريا.

مما يشير إلى أن الهدف من هذه الحسابات هو بث التحريض الطائفي بين مختلف المكونات السورية، وليست حسابات لأشخاص يتبنون مواقف وأراء سياسية معينة.

مع إندلاع أحداث العنف في مدينة السويداء خلال شهر نموز / يوليو من العام الجاري، رصدت آلاف الحسابات الوهمية، وصفت “الدروز” في السويداء بالخونة ونشرت هذه الحسابات مشاهد لمجازر أدعت أنها تحصل في السويداء بحق عشائر البدو، علماً أن معظم هذه مشاهد في دول أخرى خارج سوريا.

بسبب هذه المشاهد المظللة تحشد المئات من أبناء “العشائر العربية” في مختلف المحافظات السورية للهجوم على مدينة السويداء، بزعم “نصرة عشائر البدو”. وقد شهدت المدينة خلال هذا الهجوم موجة عنف دامية.

خلال هذه الأحداث المؤسفة، ظهرت صفحات تحمل اسم السويداء وتنشر خطابات كراهية ضد بقية المكوّنات السورية. لكن، وعند التحقق من الأسماء السابقة لهذه الصفحات، تبيّن أنها كانت تحمل أسماء مناطق خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، قبل أن يتم تغييرهــا إلى اسم السويداء مع اندلاع موجة العنف هناك.من هي الجهات المحتملة وراء الستار:
خلال شهر إبريل / نيسان من العام الجاري عُقد اجتماعٍ في مدينة القامشلي بين مسؤولين في قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وعددٍ من النشطاء الإعلاميين الموالين لها.

وبحسب مصادر مطلعة، تمّ خلال الاجتماع إعداد مشروعٍ رقميٍّ يهدف إلى تنشيط حساباتٍ وهميةٍ جديدة تُعنى بتوجيه الخطاب الإعلامي على المنصات الاجتماعية، في إطار ما يُعرف محليًّا باسم “الذباب الإلكتروني”.

وبالفعل، بعد أيامٍ فقط من تسريب أنباء الاجتماع، رُصدت عشرات الحسابات الجديدة على منصة “إكس”، تحمل سمات النمط ذاته: أسماء وهمية، بالإضافة إلى أسماء دينية وعرقية مختلفة وتنشط هذه الحسابات بشكل مفرط، مع كل حدث يحصل في سوريا.

التأثير الخفيّ والخطر القادم:
تكمُن خطورة هذه الظاهرة في قدرتها على تضليل الرأي العام، وخلق انقساماتٍ افتراضيةٍ سرعان ما تنعكس على الواقع.
ففي بيئةٍ هشّةٍ مثل سوريا، حيث تتقاطع الولاءات والانتماءات الطائفية والسياسية، تتحوّل التغريدة الواحدة إلى شرارةٍ قادرةٍ على إشعال فتيل فتنةٍ جديدة.

يقول خبيرٌ في الإعلام الرقمي فضّل عدم ذكر اسمه: “هذه الحسابات تعمل على مبدأ التكرار والتأثير الجمعي. كلّ تعليقٍ أو صورةٍ يبدو بسيطًا، لكن حين يُضخّ منه الآلاف في الوقت نفسه، يخلق وهمًا بأنّ هناك رأيًا عامًا حقيقيًا، بينما هو في الواقع صناعةٌ رقميةٌ منظّمة.”

في النهاية، لا يبدو أنّ هذه الظاهرة ستختفي قريبًا. طالما بقيت الساحة السورية مفتوحةً بلا رقابةٍ رقميةٍ حقيقية، وطالما بقيت أدوات الذكاء الاصطناعي في متناول الجميع دون ضوابط، فإنّ المعركة لن تكون فقط على الأرض، بل في الفضاء الإلكتروني أيضًا. وهناك، خلف الشاشات، تستمرّ حربٌ صامتةٌ من نوعٍ آخر — حربُ الصور، والتعليقات، والخداع البصري، حيث لا يُرى القاتل… لكن ضحاياه كُثُر.

إعداد وتحرير: مؤيد الحسين

قد يعحبك أيضاً

دع تعليقاً

ياستخدامك لهذا النموذج أنت توافق على حفظ بيناتك في هذا الموقع

هذا الموقع يستخدم ما يسمى الكوكيز لتأمين أفضل خدمة لكم في زيارتكم لموقعنا، معظم المواقع الكبرى تستخدخ هذه التقنية موافق قراءة المزيد

Privacy & Cookies Policy