تعيش المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام وحلفائه في محافظة دير الزور (غرب الفرات)، أحد أسوأ مراحلها، جراء تزايد حدة الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق المدنيين، متزامنة من استمرار الواقع الخدمي المتردي، رغم مرور عام كامل على طرد “تنظيم الدولة” من المنطقة، والتي أعقبتها تصريحات ووعود من النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، أثبتت الوقائع أنها لم تكن أكثر من فقاعات إعلامية، الهدف منها دعائي وسياسي.
الاعتقالات التعفسية، تحت مسميات وحجج مختلفة، من أبرز الأمور التي طفت على السطح، خاصة في الأشهر الأخيرة، فازدادت حالات الاختفاء القسري، وقتلى التعذيب في السجون، وبدأت تتكشف بعض أسماء ضحاياها يوماً بعد يوم.
الملاحظ بعد عام من إنهاء تواجد التنظيم في دير الزور، أن النظام عمد إلى إجراء بعض الإصلاحات الخدمية الطفيفة داخل أحياء مدينة دير الزور، خاصة التي بقيت تحت سيطرته طوال الأعوام الماضية (الأحياء الغربية)، مع التركيز على تضخيم أعماله هذه، والتي لم تتجاوز إيصال كهرباء لحارة هنا، أو ترقيع شارع هناك، مع إهمال شبه تام للأحياء الأخرى التي دمرها بالقصف الجوي والمدفعي على مدار 5 سنوات تقريباً.
ريف المحافظة الشرقي والغربي (شامية)، لم يلقى بدوره أي اهتمام خدمي من قبل النظام، رغم سياسة التجنيد الإجباري، أو “تطويع” شباب تلك المنطقة، حيث عمد إلى تكريس وجوده العسكري وتفعيل عمل الأفرع الأمنية في كل منطقة استعادها، مع إهمال شبه تام للجوانب الصحية والخدمية والتعليمية، فيما عدا بعض الخطوات المحدودة والخجولة هنا، وهناك.
نتيجة لما سبق ذكره، لوحظ انخفاض في أعداد العائدين لمناطقهم في دير الزور خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بعد تكشف زيف الوعود التي أطلقت بداية فك الحصار عن دير الزور واستعادة السيطرة على قرى وبلدات ومدن في ريف المحافظة، سواء ما تعلق منها بالجانب الخدمي، أو الجانب الأمني.
بعد طرد “تنظيم الدولة”، ظن بعض المدنيين المتبقين في مناطقهم أو العائدين إليها، أن براءتهم من تهم الانتساب للتنظيم او موالاته، ستكون كفيلة بأن يعيشوا بأمان، بعيداً عن الملاحقات الأمنية، ومن عمليات الانتقام التي تنفذها قوات النظام وفروعه الأمنية، وميليشياته المدعومة من إيران.
لكن ما أن مرت فترة وجيزة من الزمن، حتى بدأت عمليات الاعتقال لمدنيين داخل مناطقهم، أو أثناء رجوعهم إليها، تزداد من الجهات المحتلة الجديدة (روس، نظام، ميليشيات إيران)، ليبقى مصيرهم مجهولاً فترة طويلة، قبل أن تقود الصدفة إلى كشف مصير البعض منهم، وأبرز ما يذكر هنا، العثور على جثث نحو 50 مدنياً بقوا داخل قراهم وبلداتهم بعد طرد “تنظيم الدولة” منها، لكن اختفت أخبارهم مع الأيام الأولى لدخول النظام وميليشياته إلى مناطقهم منذ نحو عام، قبل أن يعثر على جثثهم داخل إحدى فتحات الصرف الصحي في قرية الطيبة (حي الهامة)، بريف الميادين شرق دير الزور، الأسبوع الماضي.
ومن الحوادث التي أثارت مخاوف من عاد من السكان، حالات اختفاء قسري لأفراد، وصولاً إلى اختفاء أسر بأكملها، دون معرفة مصيرها حتى الآن، ومن بينها اعتقال أفراد عائلة في مدينة البوكمال من قبل أمن النظام، في السابع من الشهر الجاري، وتكرر هذا الأمر في مناطق أخرى من ريف المحافظة.
دير الزور وريفها في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، عادت إلى أرجائها أخبار موت معتقلين تحت التعذيب في سجون نظام الأسد، وكان آخر ضحاياها الشاب طه محمد العباس من مدينة العشارة، الذي قضى نحبه في السجن، مع الإشارة إلى استمرار وجود 4 من أشقائه داخل سجون الأمن العسكري التابع للنظام في مدينة دير الزور، لم يعرف مصيرهم حتى الآن.
الاعتقال بهدف زج الشباب والرجال في الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، كان حاضراً بقوة في مختلف أرجاء المناطق الخاضعة للنظام بدير الزور، وتم توثيق اعتقال العشرات من الرجال الذين تجاوزا الأربعين عاماً، بحجة أنهم مطلوبين للخدمية الاحتياطية.
كما تم توثيق حالات اعتقال لشباب ورجال قادمين من مناطق تخضع لسيطرة “قسد” دون تبيان الأسباب أو التهم الموجهة لهم.
الشيء الملفت في هذا الإطار، حالة القمع التي ازدادت لكل رأي مخالف داخل مناطق سيطرة النظام والروس والميليشيات بدير الزور، حتى وإن كانت هذه الأراء لا تتعدى بعض الانتقادات المتعلقة بجوانب خدمية، أو الظروف المعيشية السيئة التي يعيشها المدنيون حالياً.
ومما تم توثيقه خلال اليومين الماضيين، اعتقال الموجه الأول للغة الفرنسية في مديرية التربية بدير الزور، وذكر بعض المقربين منه، أن اعتقاله يعود إلى تذمره وانتقاده لتجاوزات تتعلق بمجال عمله، بطلها عناصر من فروع النظام الأمنية وآخرين منتسبين لميليشيات إيرانية.
دير الزور في جزئها الخاضع للنظام الآن، لم يلحظ أي تغيير في واقعها عقب خروج “تنظيم الدولة” منها، ليبقى الحال واحد، والشيء الوحيد المختلف لديها، هو تغير الجهات المنتهكة لحقوقها، فإضافة إلى النظام وأمنه، هناك الروس، والميليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات.
ومما يلاحظ في هذا الإطار، حرص النظام على إعادة “تركيع” المحافظة، ليس عسكرياً وأمنياً فقط، وإنما توسع في سياسية اخضاعها أفقياً وعمودياً في مختلف الجوانب الأخرى، فانتهج سياسة تعيد دير الزور ريفاً ومدينة إلى المربع الأول، عبر تكثيف الدورات والفعاليات المرتبطة بإعادة تنسيب المدنيين إلى “حزب البعث”، أو إلى المنظمات التابعة له (طلائع البعث، الشبيبة)، مع الإشارة إلى أن هذا النهج لم يلحظ وجوده في مناطق سورية أخرى أخضعت لحكم النظام مجدداً، إلا بشكل محدود وعلى نطاق ضيق.
إشارات استفهام كثيرة، حول أسباب الحرص الشديد على إبقاء دير الزور في المرتبة الأولى سوءاً.. خدمياً وسياسياً وأمنياً، أسوة بما هو عليه حالها خلال سنوات سيطرة “تنظيم الدولة” الثلاث؟.
هل يتعلق الأمر بحالة انتقام من أبناء المحافظة الذين أذاقوا النظام الأمرين في السنوات الأولى للثورة، أم أن للحريصين على هذا الوضع.. مآرب أخرى؟.